خالد بن سالم الغساني
منذ أكثر من عشر سنوات، وتحديدًا عندما استولت روسيا على شبه جزيرة القرم في أوكرانيا، وما سبقها وتلاها من تصريحات وخطب نارية، على لسان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، جميعها تصب في التأكيد والتصميم على أن روسيا لن تتراجع أو تتراخى لاستكمال أهدافها، والتي سمّتها فيما بعد سنة 2022 بـ"العملية العسكرية الخاصة" والتي كانت إيذانًا ببدء الغزو الروسي للأراضي الأوكرانية، وأنه إذا استحال حلها سلميًا، فإنَّ روسيا ستكون مجبرة على حلها بالقوة.
خلال تلك الفترة، بدا وكأنَّ العالم يتحرك بسرعة نحو الأمام ويتغير فعلًا. كثيرون وقتها قالوا إنَّ هذه الحرب ستكون بداية النهاية لسيطرة أمريكا على العالم، وأننا داخلون على مرحلة جديدة يكون فيها العالم قائمًا على أكثر من قُطب، وأكثر من لاعب يملك الكلمة في السياسة والاقتصاد والأمن. أغلب المراقبين كانوا يتحدثون عن روسيا، العائدة من تحت رماد الاتحاد السوفييتي، وعن الصين التي تعمل بصمت، والتي أصبحت مصنع العالم وقوته الاقتصادية، ثم أوروبا التي تحاول أن تنفك من السيطرة الأمريكية وتستقل بقرارها. لكن مع مرور الوقت، ومع تعقّد الحرب وطول سنواتها وتحولها إلى حرب استنزاف كبرى دون تحقيق نتائج حاسمة على الأرض، ظهر وكأن الصورة ليست كما كنَّا نتمنى ونتصور.
روسيا دخلت الحرب وفي اعتقادها وحساباتها أن أوكرانيا ستسقط خلال أسابيع، وأن الغرب لن يُغامر بمواجهة مباشرة، غير أنها فوجئت بواقع مختلف؛ فالاقتصاد الغربي تحمَّل العقوبات أكثر مما توقع الروس، وأكثر حتى مما توقع الغرب نفسه؛ نظرًا للضغوط الكبيرة والفعَّالة التي مارستها واشنطن. وأوروبا رغم خسارتها للغاز الروسي لم تنهار وإن بدأت تضعف، ورغم ضعفها ذاك، إلّا أنها توحدت أكثر خلف أمريكا، بعد أن عرفت أمريكا كيف تمسك بالكتف المؤلم لها.
وحلف "الناتو" تمدد بدلًا من أن يتراجع، وانضمت إليه فنلندا والسويد، بينما وجدت روسيا نفسها وكأنها محاصرة، رغم استمرار عنفوان تصريحاتها ونار صواريخها وصرامة زعيمها، وظهوره بمظهر الزعيم الذي لا رجعة ولا مناقشة لقراره وما اتخذه، معتمدة أكثر فأكثر على الصين والهند لبيع نفطها وغازها. ورغم كل هذا الصمود والعنفوان الروسي، إلّا أن موسكو لم تستطع أن تقدم نفسها كقوة بديلة تقود العالم حتى الآن، وبدت وكأنها عالقة في حرب استنزاف طويلة، تستهلكها من الداخل، وإنها رغم صمودها واستمرارها فيما أقدمت عليه، وماهي عازمة على تنفيذه، ورغم أنها انتزعت اعتراف العالم بإمكانياتها وقدراتها العسكرية، إلا إنها لا زالت لم تمتلك بعد مقومات القدرة الكافية على تشكيل وقيادة قطبٍ آخر في مقابل الزعامة الأمريكية وقيادتها للناتو.
أما الصين، التي كان يُعلِّق عليها كثيرون آمال "القطب الثاني"، فقد لعبت لعبتها كعادتها بحذر شديد، إنها لا تريد خسارة السوق الأمريكية ولا الدخول في مواجهة مباشرة مع الغرب. وإن بدت كأنها تُساند روسيا، لكنها سرعان ما اختارت كعادتها طريق الحياد المائل نحو مصالحها. وعندما تصاعد التوتر حول تايوان، أرسلت واشنطن رسائل واضحة لبكين بأن أي مغامرة ستكون مكلفة، فعادت الصين إلى لغة الاقتصاد بدلًا من السلاح. هي اليوم قوة اقتصادية كبرى ولا شك، لكنها لا تزال تخشى أن تتحول إلى هدف مثل روسيا لو قررت تحدي النظام القائم.
ولذلك يمكن القول إنَّ الصين لا تمتلك روح المقاومة والتحدي التي تملكها روسيا، رغم امتلاكها لأسلحة كثيرة قادرة على أن تجعلها على الأقل أن تتخذ القرار بالتحدي وتقدم عليه، لكن الحكمة الصينية لا زالت تؤمن بالبقاء بعيدًا عن النار وتفضل أن تبقي على نفس سياستها التي "تجني الثمار دون أن تهز الشجرة".
في الجانب الآخر، فإن أمريكا التي توقع واعتقد كثيرون أنها بدأت تتراجع، عادت بقوة لتثبت أنها ما زالت اللاعب الأقوى. ربما لم تعد تتحرك بنفس الغطرسة التي كانت عليها في التسعينات، وإن لا زالت تتكلم بروحها وتتحدث أحيانًا كثيرة بها، إنها لا زالت تمسك بخيوط اللعبة. دعمت أوكرانيا بالسلاح والمعلومات، وفرضت على أوروبا أن تتبع خطها، ونجحت في خنق الاقتصاد الروسي من خلال العقوبات، وفي نفس الوقت أبقت الصين تحت الضغط. بمعنى آخر، أمريكا لم تعد تملك كل مفاتيح حكم العالم وحدها كما في الماضي، لكنها لا تزال تتحكم في إيقاعه.
وبين هذه القوى الكبرى، تحاول دول أخرى أن تجد لنفسها مكانًا في المشهد، دول تحاول أن تلعب أدوارًا إقليمية أو دولية، لكن قدرتها على تغيير قواعد اللعبة محدودة وستظل محدودة إلى حد كبير؛ فهذه الدول تتحرك في هامش يتركه الصراع بين الكبار، لكنها لا تصنع النظام، بل تتكيف معه.
لهذا فإننا إذا تمعّنا جيدًا، سنجد أن الحديث عن تعدد الأقطاب ما زال مبكرًا، وان بدأ ان العالم لم يعد كما كان بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، ولم تعد أمريكا قادرة على فرض إرادتها وحدها، رغم ممارستها لقدراتها التخويفية، وعنجهيتها التهديدية والفعلية وان بشكل أقل، لكن أيضًا لا يوجد حتى الآن من يستطيع أن ينافسها بشكل حقيقي. ما نراه اليوم في رأيي هو عالم فيه قوى كثيرة، لكن الزعامة الفعلية لا تزال بيد واشنطن وحلفائها في الناتو. قد تتغير الموازين قليلًا هنا أو هناك، وقد نرى تحالفات جديدة، لكن الجوهر الفعلي لم يتبدل بعد، رغم إيماننا واستعجالنا ودعواتنا على تبدله، فدورة الزمن لا يمكن ان تتوقف وان بدأت قد تأخرت.
الخبراء يتحدثون عن عالم جديد يتشكل، وهذا صحيح جزئيًا، لكن الحقيقة أن العالم القديم لم يمت بعد، إنه ما زال يتنفس، وما زال يمسك بعجلة القيادة. ربما نكون في مرحلة انتقالية طويلة، حيث الجميع يختبر حدود قوته، والكل يترقب سقوط أحد اللاعبين الكبار. لكن حتى الآن، رغم كل الحديث عن التنين الصيني وعن الدب الروسي والفيل الهندي وطائر الطوقان البرازيلي، "وتشوليمان" الكوري الشمالي، الحصان المجنح، لا يزال النسر الأمريكي الأصلع هو الذي يدير اللعبة، وإن كان بمنقار جديد وبريش جديد ومخالب جديدة أكثر مرونة وأقل بطشًا.
فهل يشهد العالم تحولًا أسرع نحو هذا التعدد، الذي أصبح مطلبًا مُلحًّا، في ظل عنجهية وغطرسة وعدوانية وانحياز أمريكا زعيمة القطب الواحد؟!
