د. محمد بن عوض المشيخي **
نعيش في عالم مُتغيِّر تتحكم في قراراته المصيرية الزوايا والدهاليز الرمادية في الفضاء الافتراضي للسموات المفتوحة التي يتحصن فيها جيل الشباب الذين رضعوا التكنولوجيا ويحرصون على أن يقضوا ساعات طويلة يوميًا على المنصات الرقمية التي يتفاعلون معها بكل صدق وأمانة؛ لكونها أصبحت هي المصدر الأساسي للمعلومات التي يتخذون بعدها ما يعتقدون أنه صحيح من قرارات، ويتوافق مع معتقداتهم وطموحاتهم في نفس الوقت.
شبكات التواصل الاجتماعي أصبحت من أهم المراجع المطلقة لهؤلاء الأجيال المتعاقبة من (جيلي زد وألفا) وغيرهم من أجيال الألفية الجديدة، فلم تعد النصوص التلمودية وحديث الوعظ والإرشاد والدعاية الرمادية يشكلان المرجع الوحيد لليهود الذين يُقدَّر عددهم بمليون ونصف المليون يهودي من سكان نيويورك التي يصفها البعض بأنها ذات ملامح وثقافة يهودية؛ أي أنهم أكثر من سكان تل أبيب من اليهود أو حتى وصاية منظمة "أيباك" العنصرية التي تتحكم بكل شاردة وواردة في أمريكا وتساند إسرائيل بالمطلق؛ بل المصادر الموثوقة الجديدة لجيلي زد وألفا هي الخوارزميات والذكاء الاصطناعي والشاشات التفاعلية في الإعلام الرقمي بمختلف أشكاله. وكشفت استطلاعات الرأي قبيل انتخابات عمدة نيويورك بأن نصف عدد سكان المدينة من اليهود سيصوتون للمرشح المسلم زُهران ممداني ذي التوجه الاشتراكي والمرشح عن الحزب الديمقراطي.
وبالفعل نجح ممداني الشاب المسلم المولود في افريقيا في الفوز بمنصب عمدة نيويورك بفارق كبير مُحرزًا نصرًا حاسمًا؛ متغلبًا بذلك على حاكم الولاية السابق أندرو كومو المقرب من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
لا شك أن فوز هذا الشاب الثلاثيني- الذي وطأت قدمه أمريكا لأول مرة وهو ابن السابعة لم يكن من الأثرياء؛ فهو لا يملك حتى سيارة؛ بل يستخدم المواصلات العامة- يعد استثنائيًا بكل المقاييس، فهذه المدينة تمثل عاصمة لكوكب الأرض؛ إذ تعد مركز العالم؛ حيث مقر الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، والأهم من ذلك تعتبر نيويورك مدينة المال والأعمال؛ فشارع وول ستريت بحي منهاتن يضم البورصات والبنوك ذات الطابع الدولي، فكل الفوائد البنكية التي يحصل عليها المودعون في البنوك المحلية عبر العالم، مصدرها ذلك الشارع الشهير المعروف بخزائن المال العالمي من الدولار والذهب والفضة والمعادن الثمينة الأخرى. لقد زرتُ هذه المدينة الصاخبة بسكانها الذين أتوا من مختلف بقاع الأرض للعمل والبعض لتمثيل بلدانهم في مقر الأمم المتحدة، وكنت أعتقد أن اليهود يقيمون في الأحياء الراقية وناطحات السحاب في وسط المدينة باعتبار أنهم الأغنى عن غيرهم في هذه البقعة من العالم التي تعتبر المعقل المفضل لبني إسرائيل منذ قرون مضت، وبعكس تلك التوقعات شاهدت خلال تجوالي في أطراف المدينة- حيث يسكن الفقراء- وجود يهود باللباس التقليدي الديني المعروف؛ حيث الشعر الطويل و"الكيباه" التي تغطِّي جزءًا من الرأس، والبعض منهم من اصحاب الدخل المحدود في نيويورك، وكان ذلك ضربًا من ضروب الخيال بالنسبة لي.
كان زُهران خلال الحملة صاحب رباطة جأش وإرادة قوية وثقة صادقة بالله وبالناخبين من المسلمين والأفارقة والعرب الذين يشكلون قاعدته الانتخابية، فقد وعد في حالة فوزه باعتقال رئيس وزراء الكيان الصهيوني عند قدومه للمدينة وتقديمه للمحكمة الجنائية الدولية في لاهاي؛ والأهم من ذلك كله كان برنامجه الذي تم إعداده بحكمة يلامس تطلعات المجتمع المحلي وعلى وجه الخصوص الشباب الذين يشكلون الأغلبية في أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية، فلم يكن بعيدًا عن عقلية جيل زد العنيد الذي تنتمي إليه زوجته راما دوجي ذات الأصول الشامية وتحديدًا دمشق.
صحيحٌ أنه تعرض للتشهير من اليمين المتطرف لأنه مسلم وتم استخدام ما يعرف بالإسلاموفوبيا ضده على نطاق واسع لكسره عن مواصلة مشوار الترشح؛ بل إن الرئيس الأمريكي نفسه دعا اليهود لتجنب التصويت لزُهران لكونه اشتراكيًا أو كما وصفه بأنه "شيوعي صغير".
وفي الختام.. بعد هذا الفوز الكبير والساحق بمنصب عمدة نيويورك؛ تشير كل التوقعات بإمكانية ترشُّحه للرئاسة الأمريكية عن الحزب الديمقراطي في الانتخابات المقبلة بعد ثلاثة أعوام من الآن، فهو جدير بالفوز نتيجة انقلاب الموازين التقليدية وحضور جيل المنصات الرقمية الذي يعتمد بالدرجة الأولى على المنطق والوقوف مع الحق لكونهم يرون أنفسهم جزءًا من العالم، لا من حدود الدولة القُطرية؛ كما إنهم يفتخرون بوقفهم مع قضايا عابرة للحدود؛ كمناصرة المظلومين في غزة وفلسطين وكذلك الاهتمام بقيم العدالة الاجتماعية ومحاربة الفقر، والمساواة والمناخ وغيرها من القضايا، بعيدًا عن التميز العنصري الذي كان سيد الموقف في مختلف الولايات الأمريكية الخمسين.
** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري
