سلطان بن ناصر القاسمي
أتحدث اليوم عن موضوع يكاد أن يكون منتشرا وواضحا في مجتمعاتنا الإسلامية، وهو أننا كمسلمين نمتلك عقيدة دينية إسلامية شرع الله تعالى فيها كل ما تحتاجه الأمة. وموضوعي اليوم هو اليقين بالله، وهنا يحضرني قول الشيخ محمد متولي الشعراوي رحمه الله: "تعلّق بالله ثم بنفسك، فلا نفسك تخون ولا الله يرحل".
عبارة في غاية الجمال، تختصر علينا الكثير من التفكير في تربية أبنائنا، وأرزاقهم، ودراستهم، ومستقبلهم بشكل عام، وتمنحنا راحة تامة عندما ندرك معناها العميق.
نعم، نحن كأولياء أمور نعيش حالة من القلق المستمر على مستقبل أبنائنا، فمنذ الصغر نربي ونعلم ونجتهد في توفير جميع المتطلبات والاحتياجات الضرورية لهم، وكل حسب إمكانياته وقدراته. كما ينصرف الكثير منَّا كأولياء أمور إلى الاهتمام المبالغ فيه بالتوجيه التربوي والتعليمي منذ نعومة أظفارهم، حتى نرى ثمرة ذلك الجهد في تواجدهم في كبرى الوظائف وأرفع المراكز العلمية والمجتمعية.
ومع ذلك، نتجاهل- أو حتى نتغاضى- عن تعليم أبنائنا ما يهمهم في آخرتهم، ومحافظتهم على دينهم وعقيدتهم، من خلال التركيز على أداء الصلاة، وتلاوة القرآن الكريم، وتعلم كل ما يتصل بعقيدتنا الإسلامية. وهنا نجد أننا- في مشوار تربيتنا هذا- نغفل أن الأرزاق بيد الله، وأننا تجاهلنا اليقين به.
نعم، هناك أسباب يجب الأخذ بها، والعمل عليها ضروري لتحقق الأرزاق، ولكن دون إهمال الجانب الديني في ذلك. وحتى نوضح معنى المقولة "تعلق بالله ثم بنفسك، فلا نفسك تخون ولا الله يرحل"، فإنها تعني أن الاعتماد على الله هو الأصل، والاعتماد على النفس هو الخطوة الثانية والضرورية. فالتعلق بالله يجعلك تشعر بالأمان والقوة والرضا، لأن الله هو السند الدائم الذي لا يخذلك ما دمت قريبا منه. أما النفس البشرية، فهي قابلة للخطأ والنسيان.
ويقصد بالتعلق بالله أن توجه كل ما في حياتك نحوه، فهو السند وهو الرزاق العليم. أما التعلق بالنفس، فمعناه أن تعتمد على نفسك في قضاء حوائجك بعد يقينك بأن الله هو المسبب الحقيقي، وأنه من يرزقك. فإن لم يتحقق ما تسعى إليه، فلا يعني ذلك أن الله لا يريد لك الرزق، بل إن في الأمر قدرا من الله تعالى قد يكون خيرا لك؛ فقد يبعد عنك ما فيه ضرر، أو يمنحك رزقا أفضل منه.
إن الحياة قد تخذلك أحيانا، لكن ذلك الخذلان قد يكون حماية من شيء لم يكتب لك.
وفي الحقيقة، أودُ أن أشير إلى قضية مجتمعية كبيرة تتعلق بمحاولة الاعتماد على البشر في طلب الرزق. فما إن نرى إعلان وظائف في إحدى المؤسسات، حتى نتسابق للتحدث مع هذا أو ذاك من أصحاب المناصب، لعلهم يتسببون في توظيف أبنائنا. وللأسف، نبتعد بذلك عن يقيننا بالله وثقتنا بتوفيقه. وعندما لا نحصل على ما نريد، يبدأ السخط والتذمر، ونلقي اللوم على الناس وهم لا حول لهم ولا قوة إلا بالله.
وإن ساعد أحد في حصول شخصٍ على وظيفة أو رزق، فهو إنما سبب سخره الله تعالى، فكل خير من الله وحده. قال الله تعالى في الآية (79) من سورة النساء: "مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ، وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ". هذه الآية توضح أن الخير من الله، أما ما يصيب الإنسان من شر أو مصيبة فهو نتيجة لذنوبه وأفعاله السيئة.
وعندما نتحدث بشيء من الإيضاح عن معنى اليقين بالله، نجد أنه الإيمان الكامل والثابت بقدرة الله وحكمته، مما يولد شعورا عميقا بالاطمئنان والسكينة ويزيد من التوكل عليه، وهو أساس الأعمال الصالحة.
أما التعلق بالله فهو ثمرة هذا اليقين؛ إذ يصبح قلب المؤمن معلقا به وحده، لا يرجو سواه ولا يخاف إلا منه. ويمكن تقوية اليقين بالله من خلال التفكّر في عظمة الله، والمداومة على الطاعات، واجتناب المنهيات، وحسن الظن به، والإكثار من الدعاء والاستغفار. فالطمأنينة الداخلية في النفس تكسب الإنسان السكينة والرضا بقضاء الله وقدره، مع الإيمان بأن كل تأخير في الرزق أو استجابة الدعاء إنما هو خير لا ندرك حكمته بعد.
ومن علامات التعلق بالله أن يثق العبد بأن الله قادر على تغيير أحواله وتيسير أموره حتى في أصعب الظروف.
أما التعلق بالنفس بعد التعلق بالله، فيحدث أحيانا عندما يتمركز الإنسان حول ذاته، ويرفض مراجعة أخطائه أو الاعتراف بها، أو يصر على المكابرة، فيفقد التوبة ويبتعد عن الاستغفار، وربما يتولد لديه شعور بالغرور والكبرياء.
وهذا النوع من التعلق مضر بالإيمان، لأنه يجعل الاعتماد على الأسباب الدنيوية فقط، وينسى المسبّب الأعظم وهو الله تعالى.
وعندما نتساءل كيف نقوي يقيننا بالله، فلابد أولا من التفكر في خلق الله وفي دلائل عظمته ووحدانيته، ثم المداومة على العبادات والطاعات لتزكية النفس، والإكثار من الدعاء كما كان يدعو النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم آتِ نفسي تقواها، وزكِّها أنت خير من زكّاها، أنت وليها ومولاها".
علينا أن نحسن الظن بالله تعالى، ونرضى بقضائه، ونبتعد عن الخوض في أسرار القدر التي لا يعلمها إلا هو سبحانه.
أما التغلب على التعلق بالنفس، فيكون بالعودة إلى الله واللجوء إليه في كل أمورنا بالدعاء والتوبة والاستغفار، وبالإصرار على عدم اليأس أو الاستسلام للشيطان. كما يتطلب ذلك تقوية علاقتنا بالله بالتمسك بالصلاة، وتلاوة القرآن، والمواظبة على الأذكار.
وعلينا أن نؤمن بالقدر إيمانا تاما، وأن ندرك أن كل ما يحدث لنا هو بأقدار الله، وأن الأسباب الدنيوية ليست إلا وسائل يسخرها الله لتحقيق مشيئته.
وخلاصة الحديث، أنه يجب علينا أن نعمل على تحقيق التوازن بين الاعتماد على الله في كل أمور حياتنا، والاعتماد على أنفسنا في سعينا الدنيوي، مع التيقن بأن الله هو السند الوحيد الذي لا يخذلك، بينما نفسك قد تخذلك.
وهنا يتحقق المعنى العظيم لمقولة الشعراوي: "فلا نفسك تخون ولا الله يرحل"، أي أن يعتمد الإنسان على الله أولا ثم على نفسه، فلا يخون نفسه باليأس أو الغفلة، ولا يخاف أن يبتعد عنه الله، لأنه سبحانه باق معه دائما، قريب لا يرحل.
قال تعالى في الآية (58) من سورة الذاريات: "إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ". تشير هذه الآية إلى أن الله هو الرزاق الحقيقي لكل المخلوقات، ذو القوة الكاملة والقدرة المطلقة التي لا تقهر، وهو المتكفل بأرزاق عباده جميعا.
تعلق بالله… فستجد أن الطرق كلها تُمهَّد باليقين، وأن الأرزاق تأتيك في الوقت الذي اختاره الله لا الذي اخترته أنت.
