سلطان بن ناصر القاسمي
قال الله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ (ق: 37).
هذه الآية الكريمة تضع بين أيدينا ميزان التفاضل الحقيقي بين البشر، فليس بطول الأعمار أو كثرة الأيام؛ بل بوعي القلب وتدبر العقل، فبهما يحيا الإنسان الحياة التي تستحق أن تُسمّى حياة.
وهنا، يمكن القول إن حياة الإنسان تتمحور حول كيفية استخدام عقله الاستخدام الصحيح، وأن يعيش تفاصيلها بوعي وبصيرة تُمكّناه من توجيه مسار عمره نحو المعنى الحقيقي للوجود. فالعقل هو القائد الذي يرسم طريق الإنسان لتحقيق أهدافه، بينما العمر الزمني ليس سوى وعاء للوقت، قد يطول أو يقصر، لكنه لا يكتسب قيمته إلا إذا كان ممتلئا بالوعي والإدراك والإنجاز. فالحياة بالعقل هي حياة مستمرة تنبض بالمعرفة، أما الحياة بالعمر فقط فهي امتداد زمني بلا عمق ولا ثمرة.
وبعبارة أخرى، نعم، بعقلك تحيا. فالحياة الحقيقية هي التي تعاش بتفكير سليم، تسمح للإنسان بأن يتعلّم ويتطور ويتخذ قرارات واعية تقوده نحو أهدافه. بينما من يعيش بعمره فقط، دون عقل ناضج، فهو كمن يعبر الزمن دون أن يترك أثرا، يعيش طويلًا، ولكن بلا معنى، لأن القيمة لا تُقاس بعدد السنوات؛ بل بما نفعله فيها. فحياة قصيرة يغمرها الوعي أجمل من عمر طويل يمر خاليا من البصيرة والتدبر.
ومن هنا تتجلى الفكرة الجوهرية في أن تعيش بعقلك لا بعمرك، إذ إن قيمة الحياة لا تكمن في امتدادها الزمني؛ بل في عمق التجربة الإنسانية وما تخلفه من إدراك ونضج. ولعل قول الآباء قديما لأبنائهم: "السنوات ستعلمك"، لم يكن مجرد مثل؛ بل إشارة إلى أن التجارب الحياتية الغنية بالدروس والمواقف هي التي تصنع الوعي الحقيقي، وتمنح الإنسان بصيرة لا تقدر بثمن. فالحياة ليست كمًّا من السنوات بقدر ما هي كيفٌ من التجارب، ومن عاشها بعقل متأمل أدرك قيمتها الحقيقية.
وحين يبلغ الإنسان مرحلة النضج العقلي، يصبح هذا النضج محركا لتحقيق أهدافه، فيستفيد من سنوات عمره بتوازن واتزان فكري، فيعيش حياة مستقرة لأنه فهم طبيعتها وتعقيداتها، واستفاد من تجاربه السابقة، فصار يتحكم بانفعالاته ويتحمل مسؤولية قراراته. عندها، يصبح قادرا على الاستجابة للمواقف بوعي لا بانفعال، ويرى الأمور كما هي دون تهويل أو تضخيم. وهنا تتجلى قيمة الوجود الإنساني؛ فالعيش الحقيقي لا يعني البقاء فقط؛ بل الوعي بالتجربة والقدرة على استخلاص الحكمة منها، وهذا لا يتحقق إلا بنضوج عقلي وعاطفي يُمكّن الإنسان من التفاعل مع مجتمعه بوعي ومسؤولية.
ومن المؤكد أن العمر الزمني لا يصنع التجربة، لأن التجربة تصنع بالتفاعل والتعلم والمواجهة، وبالقدرة على تحويل المواقف إلى دروس. ولتوضيح هذا المعنى، يمكننا التفريق بين أشكال العمر الأربعة التي تمثل مراحل ودرجات النضج الإنساني:
- العمر الزمني: وهو عدد السنوات منذ الولادة وحتى الوفاة، وهو مقياس ثابت لا يتغير.
- التجربة: وهي حصيلة الأنشطة والتعلم والتفاعل مع المجتمع، وما يكتسبه الإنسان من مفاهيم جديدة ومعارف متجددة.
- العمر البيولوجي: وهو ما يعكس الحالة الصحية والفسيولوجية للجسد، ويتأثر بالنظام الغذائي والنوم والنشاط البدني.
- العمر العقلي: وهو الأهم، لأنه يعبر عن القدرة على التفكير، وحل المشكلات، وفهم الذات والمشاعر، وهذه مهارات تكتسب وتصقل بالتجارب وليست مرتبطة بالسنين.
وهنا تستحضرُني قصة نجاح لأحد المهندسين البارعين في المجتمع العُماني، حيث بدأت حكاية تألقه من مشروع مدرسي بسيط، لكنه كان الشرارة الأولى التي غيرت مجرى حياته بأكملها. ففي تلك المرحلة الدراسية، لم يكن سوى تلميذ عادي بين زملائه، لكنه حمل في داخله شغفا مختلفا، وطموحا لا يعرف المستحيل. وعندما طُلب من الطلاب إعداد مشروع علمي، قدم هو فكرة مميزة فيها من الإبداع والذكاء ما لفت أنظار معلميه، فكانت تلك اللحظة نقطة التحول الكبرى التي أخرجت موهبته من الخفاء إلى النور.
لقد استطاع هذا المشروع أن يحوله من طالب بسيط إلى قامة هندسية يشار إليها بالبنان، قامة آمنت بقدراتها، ولم تستسلم لعوائق الطريق؛ بل مضت بخطوات واثقة نحو المستقبل. لقد كان يؤمن بأن العقول العظيمة لا تقاس بما تملكه من شهادات؛ بل بما تصنعه من أثر، وهكذا مضى في رحلته مفعما بالإصرار والعزيمة، يحمل في قلبه حلما وفي فكره يقينا بأن النجاح لا يولد صدفة؛ بل يُصنع بالصبر والإيمان.
آمن بموهبته، وأمنت معه أسرته التي رأت فيه ملامح نبوغ مبكر، فكانت له السند بعد الله، تمده بالقوة وتشجعه على المضي قدما. لم تبخل عليه بالدعم ولا بالكلمة الطيبة، حتى اشتد عوده وارتفعت همته، فشق طريقه بثبات نحو التفوق، ليكمل دراسته الهندسية في إحدى الدول الأوروبية، وهناك أثبت للعالم أن العزيمة العُمانية إذا اشتعلت لا تنطفئ، وأن الطموح إذا سكن القلب لا يعرف الحدود.
وفي الغربة، واصل الليل بالنهار، يحمل وطنه في وجدانه، ويستمد من دعاء والديه وقود النجاح، حتى حصد ثمرة جهده، وعاد مكللا بالفخر والإنجاز، يحمل علمه وخبرته وإيمانه بأن كل خطوة في طريق الكفاح كانت تستحق العناء. وها هو اليوم يشق طريقه نحو مزيد من النجاح والتفوق، رافعا راية العز باسم وطنه وأسرته الكريمة، ليكون مثالا يحتذى به في أن الإصرار والإيمان بالقدرات هما أعظم ما يمكن أن يحمله الإنسان في مسيرة حياته.
لذلك.. أدعو شباب هذا الوطن أن يسيروا على نهج هذا النموذج الملهم، وأن يدركوا أن الطريق إلى المجد لا يرصف بالعمر الطويل؛ بل بالإصرار والتعلم والعمل الواعي. فالحياة لا تهبنا قيمتها إلا حين نمنحها نحن قيمة بما نصنعه ونقدمه.
إنَّ ما يجعل الإنسان يتجاوز عثراته هو إيمانه بقدراته، وثقته بعقله، وإصراره على أن يجعل من كل تجربة درسا يقربه من أهدافه، لأن الحياة الحقيقية ليست في عدد الأيام؛ بل في أثر الأيام فينا وما نتركه فيها من بصمة لا تنسى.
