سلطان بن ناصر القاسمي
يُقال إن "الأدب تاج التربية"، وإن التربية هي الجذر الذي تنمو منه كل فضيلة، وإن الأدب هو الزهرة التي تبهج العين وتعطر السلوك. وبين هذين المعنيين يتأرجح سؤال كثيرا ما يطرح في المجالس التربوية والنقاشات الأسرية: هل هناك فرق بين التربية والأدب؟ أم أنهما وجهان لعملة واحدة؟ وهل يمكن أن نحسن الأدب دون تربية، أو نربي بلا أدب؟
في الحقيقة، التربية هي الإطار الأشمل الذي يكون شخصية الإنسان من الجذور إلى الثمار، بينما الأدب هو الجزء الذي يعبر عن تلك التربية في صورة ملموسة وسلوك ظاهر للعيان. فالتربية لا تقتصر على التوجيه اللفظي، بل تشمل بناء الفكر والعاطفة والوجدان، وتعليم المهارات الحياتية، وترسيخ القيم الأخلاقية والدينية، وهي عملية تبدأ من المهد ولا تنتهي إلا بانتهاء العمر. أما الأدب، فهو الوجه المشرق لهذه التربية، وهو الذي يظهر للناس أثر ما غرس في النفس من مبادئ وقيم، فهو السلوك الحسن، والكلمة الطيبة، والخلق الرفيع الذي يعبر عن صفاء الداخل وحسن التهذيب.
ومن خلال تأملنا، نجد أن التربية تتعلق ببناء الإنسان في جميع جوانبه؛ في دينه وأخلاقه وفكره وسلوكه ونفسيته؛ فهي التي تعده ليكون نافعا لنفسه وأسرته ومجتمعه، وتغرس فيه الإيمان بالقيم الراسخة كالإخلاص والمسؤولية والعدل، بينما الأدب هو الثمرة التي يراها الناس في تعاملاته اليومية؛ في صدقه وأمانته، في لطف حديثه، في احترامه للكبار، وفي رقي سلوكه؛ فالتربية تنشئ، والأدب يجمل، ولا غنى لأحدهما عن الآخر.
ولعلنا إذا أردنا أن نجمل الفرق بينهما نقول: التربية تبنى في الخفاء، في أعماق البيوت والقلوب، أما الأدب فيرى في العلن، في الشارع والمدرسة والمجتمع. كذلك، التربية تصنع الضمير، والأدب يظهره في أبهى صورة. وإن غياب التربية يجعل الأدب قشرة بلا جوهر، بينما غياب الأدب يجعل التربية علما بلا أثر.
ولأن الدين الإسلامي هو المنهج الأقوم في تهذيب الإنسان، فقد جمع بين التربية والأدب في كل توجيه. فالقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة هما المصدران اللذان يربيان الإنسان على الإيمان، ويهذبانه على الأدب. فمن خلال تعليم الصلاة، والصدق، والرحمة، والرفق، والعدل، يتربى الطفل على الإيمان من جهة، ويتأدب بالسلوك من جهة أخرى. فالصلاة ليست مجرد عبادة، بل مدرسة يومية للانضباط والسكينة واحترام الوقت. والصدق ليس كلمة عابرة، بل قيمة تغرس في القلب حتى تصبح طبعا وسلوكا.
ويحضرنا هنا الموقف النبوي العظيم حين اختلفت قبائل قريش حول من يضع الحجر الأسود في مكانه أثناء بناء الكعبة، فاتفقوا على أن يكون أول داخل إلى المسجد هو الحكم، فكان الداخل هو محمد صلى الله عليه وسلم. فما إن رأوه حتى قالوا جميعًا: "هذا الصادق الأمين، رضينا به حكما بيننا". إذ حلل الموقف بحكمة ورفق وعدل، فوضع الحجر بيديه الشريفتين بعد أن حملته القبائل جميعا في ثوب واحد. هذه اللحظة تجسد فيها الأدب النبوي في أبهى صوره، لأنه كان ثمرة لتربية إيمانية عميقة، فالأدب هنا لم يكن تصنعا، بل فطرة نابعة من قلب صادق وضمير نقي.
ولكي ننشئ جيلًا يحمل هذا النور النبوي في أخلاقه وسلوكه، علينا أن نركز على الجوانب التربوية التي تتكامل لتصنع شخصية الإنسان المتزنة.
فأولًا: الجانب الديني والعقائدي، من خلال غرس الإيمان بالله، وتعليمه الصلاة منذ نعومة أظفاره، وتعليمه القرآن تلاوة وحفظا وتدبرا، برفق وتشجيع بعيد عن القسوة أو الإكراه، حتى يرتبط الدين في نفسه بالطمأنينة لا بالخوف.
وثانيًا: الجانب الأخلاقي، وهو غرس القيم في القلب قبل أن تلقن على اللسان، كالأمانة، والرحمة، والصدق، والنصح، والاحترام، حتى تكون الأخلاق عادة لا مظهرا.
وثالثًا: الجانب السلوكي والاجتماعي، حيث يتحقق العدل والمساواة بين الأبناء في المعاملة، وتبنى بيئة أسرية آمنة تنمي فيهم الثقة بالنفس والقدرة على الحوار والاحترام المتبادل، لأن التربية لا تزدهر في ظل الخوف، بل في بيئة يسودها الحب والطمأنينة.
أما الأساليب التي تعين على تحقيق هذه الجوانب، فأبرزها: القدوة الحسنة، لأن الطفل يتعلم بعينه أكثر مما يتعلم بأذنه. فحين يرى والده محافظا على الصلاة، صادقا في قوله، رحيما في تعامله، فإنه دون توجيه مباشر، يتربى على ما يرى. كذلك التدرج في التعليم، فالعقول الصغيرة لا تحتمل الأوامر الصارمة، بل تثمر حين تروى باللطف والحكمة. وأيضا التشجيع والتحفيز، وهو من أقوى أساليب التربية الحديثة والنبوية على حد سواء. وأذكر في زيارتي الأخيرة لدولة قطر أنني رأيت في أحد المساجد بعد صلاة العصر حلقة لتحفيظ القرآن للأطفال، يكافأ فيها الصغار على الحفظ بحوافز رمزية جميلة، فكان المشهد بحد ذاته درسا في التربية الإيجابية، إذ اجتمع فيه الدين، والأدب، والتشجيع في آن واحد.
ومن هنا نُدرك أن التربية ليست تلقينا للمفاهيم، بل هي صناعة حياة، والأدب ليس مظهرًا اجتماعيًا؛ بل هو انعكاس لهذه الصناعة في الواقع. فحين نربي أبناءنا على الدين الحق، وعلى القيم الراسخة، وعلى الأدب الرفيع، نكون قد أسسنا لجيل متوازن في فكره وروحه وجسده.
وإذا كانت الأمم تقاس بقوتها الاقتصادية والعسكرية، فإن أعظم مقياس لقوتها الحقيقية هو مستوى أدب أبنائها، لأن الأدب هو انعكاس التربية، والتربية هي مرآة الوعي الإنساني. ومتى ما اجتمع الاثنان في الإنسان، استقام المجتمع وارتقى الوطن.
وهكذا.. نستطيع القول إن التربية هي الأصل، والأدب هو الثمرة، ومن أهمل أحدهما فقد أفسد كليهما. فصلاح المجتمعات يبدأ من بيت رباه الإيمان وزينه الأدب، ومن نفس تهذبت فأنارت، فأنجبت جيلا يرفع لواء الأخلاق والعلم معًا.