علي بن حبيب اللواتي
قراءة فنية للمستقبل المالي لدول العالم
في العام 1971، فاجأ الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون العالم بإعلانه التخلي عن تحويل الدولار إلى ذهب، منهياً بذلك العمل باتفاقية "بريتون وودز" التي كانت تربط العملات العالمية بالدولار، والدولار بالذهب، هذه الخطوة المفاجئة سُميت حينها بـ"صدمة نيكسون"، وقد فتحت الباب لعصر جديد من العملات غير المُغطاة بأي أصول مادية.
واليوم، وبعد أكثر من نصف قرن، يُعاد طرح سيناريو مشابه لكن بأدوات رقمية، فيما يمكن تسميته بـ"صدمة ترامب المالية" - وتعتبر الأمريكية الثانية، التي تهدف ـ وفقاً للمراقبين ـ إلى تخليص الولايات المتحدة من ديونها الهائلة بوسائل تكنولوجية نقدية غير تقليدية، ستهدد الأمن المالي العالمي.
تأتي هذه الخطوة في ظل تجاوز الدين الأمريكي 36 تريليون دولار، وهو رقم قياسي يضع الاقتصاد الأمريكي أمام مأزق تاريخي، خاصة مع ارتفاع الفوائد المترتبة على هذه الديون، وتراجع قدرة الحكومة على سدادها دون اللجوء إلى طباعة أوراق أموال جديدة أو فرض ضرائب هائلة، مما سيؤدي إلى إضعاف قيمة الدولار وإشعال موجات تضخم لم يسبق لها مثيل.
وهو ما جعل الإدارة الأمريكية- أو دوائر قريبة من الرئيس السابق ترامب- تطرح خطة بديلة توصف بالخطيرة، تهدف إلى تصفير الدين من خلال إصدار عملة رقمية بديلة عن الدولار، تُستخدم لتسديد قيمة السندات المستحقة على أمريكا للدول الأخرى.
الخطة المقترحة تعتمد على بيع سندات الخزانة الأمريكية لدول العالم، مثل الصين ودول الخليج وأوروبا، مقابل فوائد قصيرة الأجل، وعند استحقاق هذه السندات، فيتم سدادها ليس بالدولار أو أي أصل حقيقي، بل بعملة رقمية لا غطاء لها، لتُفرض على العالم خطتها كأمر واقعي.
وبهذا التدبير الخطير، تتحول الأموال الفعلية المُقرضة لأمريكا إلى "أرقام رقمية" بلا قيمة مضمونة، وهوما قد يُمثل أكبر عملية استحواذ مالي غير مباشر على ثروات الدول، دون إعلان حرب أو فرض سياسات اقتصادية استعمارية تقليدية.
ويمكن تشبيه هذه الخطوة بـ"خدعة القرن"، والتي قد تؤدي إلى زعزعة ثقة دول العالم بالدولار الأمريكي، خاصة إذا طُبّقت بشكل أحادي.
بالتأكيد أن الدول التي ستتضرر بشكل مباشر ستكون الدول المالكة لأكبر حيازات من السندات الأمريكية، وتأتي على رأسها الصين، ودول الخليج، واليابان، وأوروبا. ولذلك، نرى بان بعض هذه الدول بدأت فعلاً باتخاذ خطوات حذرة من الآن بتقليل اعتمادها على الدولار، والتحول إلى الذهب أو عملات دولية أخرى كوسيلة للتبادل التجاري والاحتياطي النقدي، وهي كخطوة احترازية متقدمة لما تخفية سياسات الرئيس المتقلبة التي فرضت التعرفة الجمركية على دول العالم فقط من باب الهيمنة الأمريكية، فكل يوم له قرار وتدبير.
وقد غرد الرئيس ترامب في منصته "سوشال تروث"، فنشر- مفتخرًا- صورة عملة رقمية تحمل اسمه، وكذلك تعتبر تهديداته العلنية المتكررة بإقالة رئيس الاحتياطي الفيدرالي لمصدر قلق محلي وعالمي من اي تهورات قد يأتي بها.
إن هاتين النقطتين تشيران نحو سعي الرئيس لإعادة تشكيل النظام المالي الأمريكي وفقاً لرؤيته الخاصة، بعيداً عن القيود التقليدية للمؤسسات النقدية.
وأمام هذا السيناريو، تبرز تساؤلات حول موقف الدول المتضررة، خاصة الصين ودول الخليج: فهل ستقف مكتوفة الأيدي؟ أم ستسعى إلى إيجاد حلول عملية تحمي استثماراتها ومكانتها النقدية العالمية؟ ومن أبرز تلك الحلول التي قد تلجأ لها الدول لحماية ثرواتها واقتصادها الخطوات التالية:
- الدول ستقوم بتقليل تدريجي لحيازة السندات الأمريكية.
- ستوجه جزء من احتياطها نحو اقتناء الذهب والمعادن الثمين النادرة، مقابل التخلص من الدولار بنسبة مطمئنه.
- الاحتفاظ بسلة عملات قابله للتسييل في أي وقت بسعر مناسب.
- تفعيل التجارة الدولية بالعملات الوطنية ذات الغطاء.
- تأسيس منظومة مالية بديلة متعددة الأطراف تقلل من هيمنة الدولار.
وفي حال استمرار أمريكا بتنفيذ هذا المشروع دون توافق دولي، قد يجد العالم بأنه قد أصبح أمام مفترق طريق اقتصادي يعيد تشكيل النظام النقدي العالمي بأكمله، ويقود إلى انهيار الثقة في الدولار كعملة احتياط عالمية.
إن هذه "الصدمة المالية" لن تكون مجرد عمليات نقدية، بل هي زلزالاً مالياً قد يعيد توزيع الثروات ويعيد صياغة العلاقات الاقتصادية بين كل دول العالم.
والان لنسلط الضوء على رِدَّات الفعل العالمية والمحلية المحتملة حول هذه الخطة المثيرة للقلق، بهدف التخلص من دين العام الأمريكي المقدر بـ36 تريليون دولار، من عدة جوانب:
1. التأثير المحتمل على النظام المالي العالمي:
إذا مضت واشنطن في تحويل سنداتها السيادية إلى عملات رقمية غير مغطاة، فإن الثقة بالنظام المالي الأمريكي ستهتز عالميًا، وهوما قد يدفع العديد من الدول للتفكير جديًا في تقليل او إلغاء اعتمادها على الدولار كعملة احتياط رئيسية. وهذا الانهيار التدريجي في الثقة قد يسرّع التوجه نحو نظام مالي متعدد الأقطاب، حيث ستبرز عملات أخرى مثل اليوان الصيني، واليورو الاوربي، وعملة بريكس المحتملة كبدائل عن الدولار.
2. رد فعل المؤسسات الدولية والأسواق المالية:
أما المؤسسات العالمية المالية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي سيكونان في وضع حرج، فإما أن يواكب هذا التحول الذي قد يعتبرانه "ضروريًا لضبط الدين العالمي"، أو معارضته باعتباره تهديدًا للنظام المالي الدولي، والتحرك على ضوئه.
والبورصات العالمية بدورها ستشهد تقلبات حادة غير مستقرة، خاصة في أسعار السندات وأسواق العملات، مما ينذر بأزمة مالية ستكون أعنف وأعمق أثرًا على العالم من أزمة 2008.
3. تداعيات على الاقتصادات الناشئة والدول الدائنة:
اما الدول التي ضخت أموالها في سندات الخزانة الأمريكية، كالصين ودول الخليج، ستتبخر ثرواتهم وتحقق خسائر مباشرة، ليس فقط بسبب تحويل أموالهم إلى عملات رقمية مشكوك في قيمتها، بل لأن عوائد السندات التي اعتمدت عليها في إدارة ميزانياتها، قد تبخرت أيضا. كما أن هذه الدول قد تواجه صعوبات في تمويل مشاريعها أو حماية عملاتها الوطنية.
4. أزمة ثقة في المؤسسات الأمريكية نفسها:
الخطة التي تروج لها بعض الدوائر المرتبطة بترامب قد تؤدي إلى اهتزاز الثقة بوزارة الخزانة الأمريكية والاحتياطي الفيدرالي، مما سيعجل بخفض التصنيف الائتماني لأمريكا وإنزاله من عرشه.
وإن مثل هذا الحدث سيؤثر على مصداقية الاقتصاد الأمريكي بأكمله، ويجعل حتى المستثمرين المحليين يترددون في التعامل مع سندات الحكومة مرة ثانية.
5. مواقف القوى الكبرى والتكتلات الدولية:
من غير المتوقع أن تصمت أوروبا على مثل هذا التحول المفاجئ، وهي الحليفة لواشنطن، إلا أن قلقها من استقرار نظامها المصرفي سيجعلها أكثر حذرًا. أما مجموعة بريكس، فقد تعتبر هذه الخطوة فرصة ذهبية لتعزيز فك الارتباط بالدولار، وسوف تطرح "عملة بريكس" بقوة كبديل دولي عالمي مدعوم بالذهب، وقد أنجز بنك الصين المركزي تصميم وتطوير وتشغيل نظام التحويل الصيني المالي الجديد ( CIPS) الذي يتميز بسرعة أعلى بكثير جدًا وأكثر دقة من نظام سوفيت الأمريكي الحالي، وقد بدأت دول بريكس بإجراء التحولات المالية بينهم من خلاله.
6. البعد الأخلاقي والإنساني للخطة:
تحويل الديون إلى عملات رقمية بدون غطاء حقيقي سيُنظر إليه عالميًا بانه مخطط صمم للاحتيال المالي الممنهج.
وإن الدول التي جُمّدت أموالها عمليًا قد ترفع دعاوى قانونية ضد أمريكا أو ستطالب بتعويضات، وستعتبر ما حدث "سرقة شرعية" تحت عباءة القانون الأمريكي، وذلك سيفتح الباب أمام أزمة أخلاقية تطال صورة الولايات المتحدة أمام شعوب العالم.
7. إمكانية فشل الخطة داخليًا:
ليست كل مراكز القوى في أمريكا ستقف خلف ترامب تسانده، فهناك ستكون معارضة محتملة داخل الكونغرس، ومن رجال الاقتصاد، وحتى من الاحتياطي الفيدرالي نفسه. وإن هذا الانقسام قد يعرقل تنفيذ الخطة أو يؤدي إلى تعديلها، أو حتى نسفها بالكامل.
كذلك، إذا تسببت هذه الخطة بارتفاع التضخم أو خسائر داخلية فادحة، فإن الشعب الأمريكي نفسه قد يرفضها، ويضغط على الحكومة لإلغائها.
إن ما يسمى بـ"صدمة أمريكا المالية" لا تُعد مجرد فكرة تقنية لتحويل أدوات الدين إلى عملات رقمية؛ بل إنه تحوّل إستراتيجي كبير يحمل معه فرصًا للبعض ومخاطر جسيمة للعالم أجمع.
وعليه.. إن الردود الدولية، ومواقف التكتلات الكبرى، ومعارضة الداخل الأمريكي، كلها عوامل ستحدد ما إذا كانت هذه الصدمة ستمر بهدوء رغم مآسيها على الداخل الامريكي والعالمي، أم إنها ستصبح كارثة جديدة لسياسة مالية تهز دول العالم؟
أخيرًا وليس آخرًا.. هل سيشهد العالم صدمة ثانية تسجلها الأيام باسم "صدمة ترامب"؟!
