الدشداشة العُمانية والجلابية الصعيدية.. منسوجتان من كبرياء

 

 

 

د. هبة محمد العطار **

 

لا تنمو الشعوب من فراغ، ولا يُبنى التقدّم على أنقاض الذاكرة؛ فالأمم التي تفقد صلتها بجذورها، تفقد تلقائيًا قدرتها على رسم ملامح مستقبلها. وتمسّك الشعوب بزيّها وتراثها وثقافتها الشعبية وفلكلورها، ليس مجرّد حنينٍ إلى الماضي؛ بل هو فعل وعيٍ بالذات واستمرارٌ للتاريخ في وجدان الناس؛ فالهويّة ليست شعارًا سياسيًا أو خطابًا ثقافيًا، وإنما خيطٌ ممتدّ من الذاكرة إلى الحاضر، يربط الإنسان بأرضه ويمنحه ملامحه الخاصة بين أممٍ تتشابه ملامحها وتتنافس على التفرد، ومن لا يطمئن إلى جذوره، لا مستقبل له، لأن الهوية التي تُهمل تُصبح عبئًا، بينما التي تُصان تتحوّل إلى مصدر قوّة ونور.

الجلابية الصعيدية في مصر  ليست مجرد ثوب يُرتدى؛ بل حكاية تمتد جذورها في عمق الجنوب؛ حيث تختلط حرارة الشمس برائحة الطين، ويتحوّل القماش إلى رمز للكرامة والهوية.

ويعود أصل هذا الثوب العريق إلى العصور الفرعونية، حين كان المصري القديم يرتدي ما يُعرف بـ"الشناتير"، وهي أثواب طويلة من الكتان الأبيض تغطي الجسد وتسمح بحرية الحركة في العمل والزراعة والطقوس الدينية. ومع مرور القرون، تطورت "الشناتير" تدريجيًا حتى اتخذت شكلها المعروف اليوم باسم “الجلابية”، محافظةً على جوهرها القديم في البساطة والراحة والوقار.

منذ ذلك الحين، أصبحت الجلابية الرفيق اليومي للرجل الصعيدي، تحفظ وقاره وتمنحه بساطة لا تُشبه سواها. هي زيٌّ يعكس انتماء الإنسان لأرضه أكثر مما يعكس ذوقه الشخصي؛ لأنها خيطٌ من الذاكرة قبل أن تكون قطعة قماش. في القرى الممتدة على ضفاف النيل، اعتاد الناس أن يروا الجلابية معلّقة على حبل الغسيل بجوار “العِمّة” البيضاء، مشهدٌ يتكرر منذ أجيالٍ كأن الزمن لم يجرؤ على تغييره.

الترزي الصعيدي هو الراوي الصامت لتلك الحكاية، يجلس في ورشته الصغيرة، محاطًا بكرات الخيوط وأقمشة الدمور والفيصلية والكتان. كان في الماضي يقيس للزبون بالمتر الخشبي، ثم يبدأ القصّ والخياطة على ضوء مصباحٍ خافت، وكأنّه ينحت الملامح بخيوطٍ من صبر. لكل جلابية بصمة خاصة، يُفصِّلها الترزي بحسب مقام صاحبها؛ جلابية العمدة غير جلابية الفلاح، وجلابية الشاب تختلف عن جلابية الشيخ. ومع مرور الوقت، تغيّرت الأقمشة والأدوات، لكن بقي الترزي الصعيدي محتفظًا بكرامته وصنعته، يرى في الخياطة فعلَ حبٍّ قبل أن تكون مهنة.

ومع ارتفاع الأسعار في السنوات الأخيرة، لم تعد الجلابية رخيصة كما كانت؛ فالقماش المستورد الذي كان يُشترى بالمتر القليل أصبح اليوم عبئًا، وقد تصل تكلفة الجلابية الواحدة إلى 7 آلاف جنيه (148 دولارًا تقريبًا) إذا صُنعت من خامة راقية كتلك التي تُعرف باسم “الفيصلية” أو الكتان الإيطالي أو الأقمشة اللامعة التي يرتديها كبار القوم في المناسبات. أما الجلابية البسيطة التي تُخاط من القطن البلدي أو الدمور، فما زالت في متناول اليد، لكنها بدورها ارتفعت لتبدأ من نحو 1000 جنيه، بعد أن كانت قبل سنواتٍ لا تتجاوز بضع مئات. ومع ذلك، يظل الصعيدي يرى فيها ثوب كرامة لا يُقاس بثمن، ويعتبر أن الترزي الذي يُحسن تفصيلها يستحق التقدير أكثر مما يستحقه تاجر الذهب.

تُرتدى الجلابية في الصعيد وفق بروتوكولٍ غير مكتوب، لكن الجميع يعرفه بالفطرة. هناك جلابية العمل التي تُلبس في الحقول والأسواق، فضفاضة خفيفة بلونٍ ترابي. وهناك جلابية المجالس التي تُفصَّل من قماش أثقل قليلًا، وتُرتدى مع شالٍ أبيض أو عِمّةٍ تلفّ الرأس بعناية. أما جلابية الأفراح فهي أبيض ناصع، تُلبس مع عباءة سوداء مفتوحة من الأمام، بينما تكون جلابية العزاء داكنة خالية من الزخارف. حتى الأطفال يتعلمون منذ صغرهم أن الجلابية ليست زِيًّا عشوائيًا؛ بل لها مقامها ووقارها في كل مناسبة.

ورغم خصوصية الجلابية الصعيدية في ملامحها، فإن الجلّاب أو الجلباب هو في الأصل لباس العرب في مختلف البيئات. انتقل مع القوافل وتنوّع مع العادات والمناخات، لكنه ظل يحتفظ بروحه المشتركة: الثوب الطويل الفضفاض الذي يمنح الجسم راحة ووقارًا. ففي الخليج العربي يُعرف باسم الثوب أو الدشداشة، ويُرتدى غالبًا بلونٍ أبيض ناصع مع غطاء رأس يُسمّى الغُترة أو الشِماغ، بينما يُطلق عليه في المغرب العربي اسم الجلّابة وتكون ذات قلنسوة مميزة. وفي السودان واليمن يحتفظ الجلباب بملامح قريبة من الصعيد، بلونٍ ترابي وأكمامٍ أوسع قليلًا.

أما في سلطنة عُمان، فيُعرف هذا الزي باسم الدشداشة العُمانية التي تُعدّ الزي الوطني الرسمي للرجال، وتتميز بلونها الأبيض الناصع أو بألوانٍ هادئة، وبخيطٍ صغيرٍ يتدلى من ياقة العنق يُعرف باسم “الفَرْخة”، وغالبًا يُعطر بالبخور أو أي عطر في المناسبات. ويرتدي الرجال العُمانيون معها غطاء الرأس الذي يتنوع بين “الكِمّة” المطرزة الجميلة و“المِصر” الملفوف بعناية حول الرأس، في مشهدٍ يجمع بين الجمال والوقار ويعبّر عن الأصالة العربية في أبهى صورها.

هكذا يلتقي العرب في ثوبٍ واحدٍ تتبدّل أسماؤه من بلدٍ لآخر، لكن يبقى جوهره واحدًا: ستر الجسد، وصون الكرامة، وتعبيرٌ عن رجولةٍ هادئةٍ لا تحتاج إلى زينة.

الجلابية ليست ثوبًا يُنسج من قطنٍ وخيطٍ فقط؛ بل تُنسج من الكبرياء، من طينة الأرض ومن عرق الرجال الذين صنعوا معنى الرجولة في صمت. هي راية الجنوب البيضاء التي لم تسقط رغم تبدّل العصور، ودليل أن الأصالة لا تُفصَّل في محال الأزياء، بل تُولد من روح الناس. ولهذا، ستظل الجلابية الصعيدي ــ مهما غلا ثمنها أو تغيّر شكلها، علامة الخلود في وجدان مصر؛ ثوبًا من هواء النيل، وذاكرةً لا يطالها الغياب.

** أستاذة الإعلام بجامعة سوهاج في مصر، وجامعتي الملك عبد العزيز وأم القرى بالسعودية سابقًا

الأكثر قراءة