مدرين المكتومية
مع الأسف لا جديد يحدث! لا شيء هنا ولا هناك يلوح في الأفق، انتظرنا طويلًا ومرَّت الدقائق والساعات والأيام وليالي الشتاء وربما السنوات، حتى انطفأت الشموع وخلعنا معطف الأمل الذي تدثرنا به كثيرًا.. لم نعد ننتظر البشريات كما قِيل، كأننا في كوميديا سوداء بلا شخوص، بلا إرادة، وبلا حدث، لا شيء سوى هذا الفراغ القاتل وتصفيق المُهرِّجين، ثمَّة انهيارات قادمة، في فساد الأمكنة، تجدني أركض ولا أجد الهواء، فقط يحيط بي هذا الملل الوجودي!
هكذا يبدأ الانتظار دائما بترقب وبوعد غامض يظنه الإنسان مؤقتا قبل أن يتحول إلى حالة دائمة وملازمة، حينها يتحول الإنسان من مرحلة الترقب والانتظار إلى مرحلة اللاشعور، لأن مساحة الانتظار الطويل تحول كل شيء لـ"متشابهات" عندها تكون كل المؤشرات مُبهمة لأشياء يفترض أنها تحدث لكنه لا يشعر بها أبدا ولا يستشعر أثرها، فالعالم من أمامه يتغير، وتتحرك الأخبار، وتتبدل الوجوه من أمامه إلا أن الداخل يبقى ساكنًا كبركة ماء لا تحركها الرياح.
في هذه الحالة لا يكون العجز في غياب الفعل فقط؛ بل في غياب الإحساس بالإنجاز مهما كان كبيرًا؛ فالشخص عندما يصل لهذه المرحلة لا يستطيع أن يرى إنجازاته ولا أن يفاخر بنجاحاته ولا يستمتع بتلك اللحظات الفارقة، خاصة وإن كانت هذه الإنجازات صامتة وغير معلنة، فتكبر في الخفاء وتتراكم بهدوء لكنها تبدو خرساء لا تعبر عن نفسها تمامًا، حتى وإن عظمت وكبرت لا يراها، وربما ينكر وجودها لأنه لا يرى أثرها، فما لا يُرى يكون محل شك، وما لا يُسمع يذهب طي النسيان، وإن كان أساسًا لما سيأتي لاحقًا!
وإذا عكسنا هذا المشهد على الإنسان نفسه سنكتشف أنَّ الانتظار لم يعد ظرفا خارجيا بقدر ما أصبح حالة داخلية، فالإنسان اليوم لا ينتظر حدثاً معيناً وإنما يريد أن يشعر، أن يستيقظ ليتأكد أن ما يعيشه ليس مجرد تكرار آلي للأيام، فمع طول الترقب يفقد الإنسان الإحساس بالزمن وقيمته، فعندها تتشابه المساءات والصباحات، وتتراجع الرغبات ويتحول العمر لسلسة التأجيل، فحين يدخل الإنسان في هذه الدائرة تبدأ الرتابة في إعادة تشكيل وعيه بذاته، بحيث إنه يتحرك ويعمل وينجز لكنه لا يشعر بأنه يتقدم أو يصل، كل شيء يوحي بأنَّ هناك شيئا ما يتغير إلّا أنَّ الداخل ساكن وكأنَّ الروح عالقة في نقطة واحدة ليس لها ثانٍ، وهنا يصبح الأمر خطيراً، وليس خطيرًا لأنَّه قد يولد فشلاً ولكن لأنه سيحول الأشياء لاعتياد، والاعتياد يصبح مع الوقت فراغًا، وكل ذلك يسهم في غياب الدهشة، وعلى حياة لا تُعاش وإن كانت تُدار بطريقة أو أخرى.
هذا المشهد الإنساني يُذكِّرني بمسرحية "في انتظار جودو"؛ حيث الانتظار هو الفعل الوحيد المُمكن، غير أن الفارق هنا أن الإنسان لا ينتظر شخصًا خارجيًا؛ بل ينتظر نسخة أخرى من نفسه، على أمل أن تكون أكثر وضوحًا وأكثر شجاعة وأقل تعبًا وتعثرًا؛ لأن عبث الانتظار لا يكمُن في غياب القادم؛ بل في تعليق الحياة إلى أن يأتي؛ فالإنسان لا يحتاج دائمًا إلى تغيير الظروف بقدر حاجته إلى هِزات داخلية تُعيد ترتيب علاقته بذاته، وهِزات تجعله يشعر بأنَّه حاضرٌ، وأن وجوده ليس مؤجلًا حتى إشعارٍ آخر؛ فالشعور بالهدف لا يُولد من حدث كبير بقدر ما يُولد من وعيٍ يوميٍ بأنَّ لكل خطوة معنى، حتى وإن بدت صغيرة الحجم.
المعجزة حين تنعكس على الإنسان لا تكون في أن يتغير العالم من حوله؛ بل في أن يتوقف عن انتظار اللحظة المثالية ليبدأ، وحين يتخلى الإنسان عن مقعد الانتظار يكتشف أن "جودو" لم يكن غائبًا بقدر ما كان يسكن داخله صامتًا ومؤجلًا.
كل هذا لا ينطبق على الفرد وحسب، لكنه أيضًا يمكن أن ينتقل إلى مستوى الشعوب ومدى تقدمها، وإنجازاتها، وإذا نظرنا إلى أداء بعض الحكومات من حولنا، نجد هذه الأزمة مُتحقَّقة، وتعاني منها الشعوب؛ فحالة المَلل والبُطء والرتابة وضعف المشاريع، كُلها عوامل تُفاقِم من حالة الإحباط العام لدى كثير من الشعوب، وربما لا نكون نحن استثناءً من ذلك!
انتظار المُعجزة ليس سوى رسالة تُخبرنا بأنَّ الرتابة في القول والفعل تُولِّد الإحباط، الذي يُفضي إلى اليأس، وإذا يئس المرء أو يئست الشعوب، لن تكون قادرة على الإنجاز، وسيزداد المدّاحون لا المُنجزون.. فالأمل كُل الأمل ألا يكثر المدّاحون في حارتنا!
