خالد بن حمد الرواحي **
في أروقة المؤسسات الحكومية، يقف الموظف دائمًا في مواجهة معادلة دقيقة: صواب يرفع من مكانته ويعزز الثقة فيه، وخطأ واحد قد يُطيح بكل ما بناه من جهد وسمعة. وبين هذين القوسين يعيش الموظف تحت وطأة الترقب؛ فكل قرار يتخذه قد يُقرأ باعتباره إنجازًا يُحسب له، أو زلّة لا تُغتفر. وهنا يبرز السؤال الجوهري: هل يُعامل الموظف الحكومي بعدالة تتيح له أن يخطئ ليتعلم كما يُكافأ عندما يُصيب، أم أن ثقافة العمل لا ترى إلا الأبيض والأسود، فتُسقط كل ما بينهما من مساحات التجربة والتطور؟
يجد الموظف الحكومي نفسه محاطًا بتوقعات عالية من كل اتجاه؛ فالمواطن يرى فيه ممثلًا مباشرًا للمؤسسة، والإدارة تنظر إليه كأداة لتحقيق سياساتها، بينما المجتمع يراقب أداءه بعدسة مكبرة. في هذه البيئة المليئة بالتطلعات، يصبح الصواب واجبًا لا يُشاد به كثيرًا، فيما يتحول الخطأ – مهما كان صغيرًا – إلى حدث ضخم يُعلّق عليه الرأي العام، وربما يُحمَّل الموظف وزر مؤسسته بأكملها. وهكذا يعيش الموظف بين هاجسين متناقضين: الرغبة في المبادرة والابتكار من جهة، والخوف من الوقوع في الخطأ من جهة أخرى، وهو خوف قد يدفع بعضهم إلى الانسحاب إلى منطقة الأمان والاكتفاء بالحد الأدنى من الإنجاز.
تختلف النظرة إلى الخطأ باختلاف ثقافة المؤسسة؛ ففي بعض البيئات الوظيفية يُعامل الخطأ باعتباره إخفاقًا شخصيًا يستوجب العقوبة أو التوبيخ، وهو ما يزرع الخوف في نفوس الموظفين ويجعلهم يتجنبون المغامرة أو طرح الأفكار الجديدة. بينما في مؤسسات أخرى أكثر وعيًا، يُنظر إلى الخطأ باعتباره محطة طبيعية في مسار التعلم والتطوير، وفرصة لتقويم المسار وتعزيز المهارات. وبين هذين النمطين، يتشكل مصير الموظف الحكومي: إما أن يكون موظفًا أسيرًا لرهبة الخطأ، أو موظفًا قادرًا على تحويل التجارب المتعثرة إلى دروس تفتح أمامه آفاقًا جديدة.
ولعلنا نرى ذلك جليًا في الواقع اليومي فكم من موظف عاش سنواته الوظيفية محاصرًا بهاجس الوقوع في الخطأ؛ يتردد قبل التوقيع على معاملة بسيطة خوفًا من ثغرة إجرائية، أو يؤجل اتخاذ قرارٍ يراه صائبًا لأنه يخشى أن يُساء فهمه. وقد يتحول هذا الخوف مع الوقت إلى عبء يثقل كاهله، فيفضّل البقاء في دائرة الروتين المأمون بدلًا من السعي وراء مبادرة قد تفتح بابًا للتغيير. وفي المقابل، برزت نماذج لموظفين وجدوا في بيئات عمل أكثر مرونة مساحة لتجريب أفكارهم، فأخطأوا وتعلموا، ثم عادوا ليحققوا إنجازات لم تكن لتولد لولا تلك التجارب الأولى المتعثرة. وهكذا يظل الفارق بين العقوبة والتعلم هو ما يحدد مستقبل الموظف بين الجمود أو الإبداع.
حين يتعلق الأمر بتقييم الموظف الحكومي، يظل الإنصاف معيارًا صعب التحقيق؛ فكثيرًا ما تُختزل نتائج العمل في أرقام أو تقارير جافة لا تعكس حجم الجهد المبذول خلفها. وقد يُحاسَب الموظف على خطأ فردي وقع فيه، بينما تُهمل إسهاماته اليومية التي صنعت فارقًا في سير العمل. والأسوأ أن بعض المؤسسات تفتقر إلى آليات واضحة للتمييز بين الخطأ الناتج عن اجتهاد شخصي، وبين ذلك الذي سببه قصور تشريعي أو ضعف تنظيمي. وبين هذه الفجوات، يضيع حق الموظف في تقييم عادل يراعي السياق ويوازن بين الصواب والخطأ، في حين أن العدالة الحقيقية تقتضي النظر إلى الصورة الكاملة لا إلى لقطة عابرة.
وفي النهاية، يبقى الموظف الحكومي عالقًا بين كفتي ميزان شديد الحساسية: كفة الصواب الذي يُعتبر واجبًا لا يُكافأ عليه غالبًا، وكفة الخطأ الذي قد يُضخّم ليتحول إلى وصمة دائمة. وبين هذين الحدّين، يحتاج العمل الحكومي إلى ثقافة جديدة أكثر إنصافًا، تعترف بإنجاز الموظف وتسمح له بأن يخطئ ليتعلم، لا ليُعاقب فقط. فالمؤسسات التي تمنح موظفيها مساحة للتجربة والخطأ هي ذاتها التي تنجح في بناء كفاءات حقيقية قادرة على الابتكار والتطوير. أما الإبقاء على منطق "الصواب حتمي والخطأ مرفوض"، فلن ينتج سوى بيئة عمل جامدة تخشى التغيير وتفقد حيويتها مع مرور الزمن. فالموظف الذي يُمنح فرصة للتعلم من خطئه، هو نفسه الذي سيصنع الصواب غدًا بقيمة مضاعفة.
** باحث متخصص في التطوير الإداري والمالي