حمد الصبحي
في صباحات عُمان، حين ينهض البحر من غفوته، وتفتح الجبال أعينها على ضوء الشمس، يمضي الموظف العُماني إلى عمله بخطوات هادئة وواثقة. ليس في الأمر مجرد توقيع على دفتر حضور أو جلوس خلف مكتب، بل هو فعل حياة، وطقس يومي يشبه الصلاة في صفائه وخشوعه.
الالتزام عند العُماني ليس واجبًا إداريًا يُفرض بالقوانين؛ بل هو قيمة مغروسة في الروح، تنبض بها الذاكرة الجماعية للشعب. فمنذ أن كان الأسلاف يحرثون الأرض في مواسم الزراعة، أو يبحرون في المدى اللامحدود بحثًا عن الرزق، كانوا يعرفون أن العمل وعدٌ لا يُخلف، وأن الوقت أمانة لا تُهدر. هذه الروح انتقلت عبر الأجيال، لتصوغ شخصية الموظف العُماني الذي صار اليوم الأول عربيًا في الانضباط والالتزام.
في مكاتب الدولة، في المؤسسات الخاصة، في كل موقع عمل، ستلمح هذا الحضور المختلف: جديّة لا تخلو من ابتسامة، هدوء يوازن بين المهام، وأخلاقيات تجعل من أداء الواجب سلوكًا راقيًا لا ينتظر مكافأة. الموظف العُماني يدخل مكان عمله كما يدخل بيته؛ يحافظ عليه، ويعطيه من قلبه، لأنه يرى في الجهد اليومي امتدادًا لحب الوطن.
ليس غريبًا إذن أن يتفوق على نظرائه في العالم العربي. فالعُماني يتعامل مع العمل كجزء من هويته، لا كوظيفة عابرة. إنه يربط بين الإتقان والكرامة، بين الإنتاج والرضا النفسي، ويعتبر كل إنجاز صغير لبنة في صرح كبير يُبنى اسمه: عمان.
وحين نتأمل في هذه الصورة، ندرك أن الالتزام لم يكن يومًا مجرد حضور جسدي، بل هو حضور روحي أيضًا. الموظف العُماني يجيء بفكره، بروحه، بحلمه، ويترك خلفه أثرًا صافيًا يشبه أثر المطر على أرض عطشى.
واليوم، وهو يتصدر المراتب العربية في الانضباط، يبقى التحدي أن يُضيف إلى التزامه جناحي الإبداع والابتكار، ليصعد بعُمان إلى فضاءات أرحب، حيث لا يُقاس النجاح بالالتزام وحده، بل بما يصنعه العقل من أفكار، وما تتركه اليد من إنجازات.
والتقارير العربية التي أشارت إلى تفوق العُماني في الالتزام لم تكن سوى توثيق لحقيقة يلمسها كل من يتعامل مع المؤسسات في السلطنة. فمن يزور وزارة أو شركة أو حتى مؤسسة صغيرة، يلاحظ الدقة في المواعيد، والحرص على إنجاز المعاملات دون تسويف أو تعطيل.
الأجمل أن الالتزام لدى الموظف العُماني لا يُنظر إليه كقيد ثقيل أو واجب مفروض، بل كقيمة أخلاقية تضيف إلى رصيده الشخصي قبل أن تنعكس على المؤسسة. فهو يربط بين العمل والإيمان، بين الإنجاز والرضا النفسي، وبين الجهد والإحساس بالكرامة.
إذا كان الموظف العُماني اليوم يحتل المركز الأول عربيًا في الالتزام، فإن التحدي القادم هو أن يتصدر المراكز العالمية ليس فقط في الانضباط؛ بل أيضًا في الإبداع والابتكار والإنتاجية. فالالتزام هو الأساس، لكنه يحتاج إلى جناحين آخرين: الكفاءة والابتكار، حتى يكتمل التحليق.
ومع هذه الصدارة العربية، يمكن القول إنَّ الموظف العُماني لم يحجز مقعد الريادة عربيًا صدفة، وإنما بفضل تاريخ عريق، وواقع منظم، وطموح يتجه نحو الغد. إنه ليس مجرد موظف يوقّع حضورًا وانصرافًا؛ بل مواطنٌ يرى في عمله رسالة وطنية ومشروع حياة.
إنه ليس مجرد موظف، إنه حارس الزمن الجميل، وشاهدٌ على أن العمل حين يُؤدَّى بحب، يتحول إلى وطن كبير.