الحروف الصامتة في رواق محمد بن مهدي اللواتي

 

 

 

حمود بن علي الطوقي

 

في مساء هادئ اصطحبتني خطاي مع ثُلّة من الأصدقاء إلى فضاء مختلف، حيث لا تُقاس اللحظات بالوقت؛ بل بعمق التجربة، فقد كنَّا على موعد مع زيارة رواق اختاره الفنان والخطاط العُماني محمد بن مهدي جواد اللواتي ليكون بيتًا للحروف ونافذة يطل منها على عشاق الفن العربي الأصيل.

ومنذ أن كان طالبًا في مقاعد الدراسة في ثمانينات القرن الماضي ارتبط اسمه بالحرف العربي ارتباط الروح بالجسد، ورغم صغر سنه يومها وجدت خطوطه طريقها إلى الصحف المحلية لتُعلن ميلاد موهبة قررت أن تجعل من الخط مشروع عمر ورسالة وطنية. حمله الشغف إلى رحلات بحث في بلدان شتى متنقلًا بين إيران والأردن وتركيا، حيث تتلمذ على أيدي خطاطين كبار وتشرّب من مدارسهم المختلفة، ومع مرور أربعين عامًا من الدراسة والتجريب أصبح اليوم من أبرز الأسماء في عالم الخط العربي، بل وابتكر أسلوبًا فنيًا فريدًا أطلق عليه اسم "الحروف الصامتة"، وهو فن يجمع بين جماليات الحرف وروح التشكيل ليمنح المتلقي لوحات تنطق بالدهشة والتأمل.

ويُصنَّف صديقنا بين الخطاطين بأنه خطاط مُبتكِر خرج من عباءة الخطوط الكلاسيكية نحو آفاق جديدة، حتى إنهم يطلقون عليه لقب "الخطاط الحروفي"، لأنه لم يكتفِ بكتابة ما استقر عليه التراث، بل ابتكر خطًا جديدًا أضاف بعدًا آخر للخط العربي المعاصر. أما الرواق الذي أعدّه في أحد أركان منزله فلم يكن مجرد معرض للوحات، بل فضاء حيّ تتنفس فيه الحروف، كل لوحة تحكي قصة، وكل انحناءة في حرف تحمل صلاة خفية؛ حيث جلسنا بين أعماله نتأمل خطوطه كأنها موسيقى صامتة تنساب إلى الروح وتؤكد أنَّ الخط العربي في رؤيته ليس مجرد زينة، بل حياة كاملة ورسالة حضارية. ولأنَّ لكل فنان حكاية قريبة، فإنَّ شهادتي فيه تبقى مجروحة، فهو ليس فقط فنانًا تابعت بداياته؛ بل صديق الدراسة ورفيق الطفولة. تزاملنا على مقاعد المدرسة، وكنَّا نلتقي في قاعة جماعة الصحافة المدرسية، أنا مأخوذ بعالم الصحافة وهو مأخوذ بعالم الحرف. كنت ألاحق الكلمة وهو يلاحق انحناءة القلم، وكم سررنا ونحن نرى خطه المُميز يزاحم عناوين الصحف في تلك الأيام. واليوم، بعد عقود من الزمن، أراه في رواقه المضيء وقد بلغ بالحروف مبلغًا لم نكن نتخيله يومها، فأشعر أنني لا أرى لوحات معلّقة على الجدار فحسب، بل أقرأ بين خطوطها قصة صديقٍ كبير كتب عمره كله بالحبر والشغف.

ويُعد الفنان والخطاط محمد بن مهدي جواد اللواتي من أبرز الخطاطين العُمانيين والعرب، إذ انطلقت مسيرته منذ ثمانينات القرن الماضي وشارك في العديد من المعارض المحلية والعربية والدولية، كما تتلمذ على يد نخبة من الخطاطين في إيران والأردن وتركيا، والمغرب وابتكر أسلوبًا فنيًا مبتكرًا أطلق عليه "الحروف الصامتة" التي لاقت إعجابًا واسعًا بين المهتمين بالفنون التشكيلية والخط العربي. وقد حاز على تقدير كبير من المؤسسات الثقافية والفنية، ويواصل اليوم عبر رواقه الخاص في مسقط تقديم تجربة فنية متفردة لعشاق الحرف العربي.

ومن بين ما يتمناه أن تبادر الجهات الحكومية إلى تسجيل الخط العُماني الأصيل؛ ليكون جزءًا من قوائم الموروث الثقافي غير المادي لدى المنظمة الدولية المعنية بحماية وصون هذا التراث الإنساني، وهي منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، التي تُعنى بتوثيق وحماية الفنون التقليدية والخط العربي وسائر الإبداعات التي تشكل ذاكرة الشعوب وهويتها.

الأكثر قراءة