يوميات فراشة في حديقة البشر حكايات عن الوجوه المقنعة (4)

القرد الذي يتسلَّق ظهور الآخرين

 

الطليعة الشحرية

خرجتُ من قاعة الاجتماع، وأجنحتي الداخلية مُثقلة بالدهشة، لم أعد أعلم أأنا في مؤسسة عمل أم في حديقة غرائب تنطق فيها الحيوانات بوجوهٍ بشرية. الذبابة فرضت نفسها بالطنين، الحرباء تلوَّنت لتبقى، والببغاء اكتفى بأصداء غيره ليدَّعي أنه مُبتكر. وقفتُ لحظة أمام النافذة، أنظر إلى زجاجها كمرآة أسألها:

- أهذه وجوه زملاء أم انعكاسات لغرائز مُقنَّعة؟ شعرتُ أنني عالقة بين مسرحٍ واقعي وسيرك رمزي، حيث تختلط الأقنعة بالوجوه.

جلستُ في صمتٍ أثقل من الكلام، أُصغي إلى داخلي كما لو أن نفسي صارت غريبًا يكلمني قلت لها:

-"أيُّ معنى أواجه هنا؟ أهي مؤسسة للعمل أم مسرحٌ لعرض الغرائز؟ الذبابة تصرخ كي تُرى، الحرباء تتلون كي تبقى، الببغاء يردد كي يحسب فما الذي بقي للصدق؟".

فأجابتني نفسي:

-"هكذا هي النفوس إذا أُهملت مبادِئُها، تبحث عن أي وسيلة للظهور ولو على حساب الجوهر".

قلت لها ثانية:

- "لكن ألا يُفترض أن الإنسان يسمو بالعقل عن الحيوان؟ فما بالهم يعودون إلى الغرائز القديمة كأنهم في غابة لا في مكتب؟".

أجابت:

-"النفس البشرية مزدوجة، تحمل في داخلها الإنسان والحيوان معًا، متى غلب وعيها سمت، ومتى غلب خوفها أو طمعها هبطت إلى ما هو أدنى".

سكتُّ طويلًا، ثم همستُ لنفسي:

-"إذن ليست دهشتي من غرابة ما أراه؛ بل من حقيقةٍ أعمق: أن الإنسان لا يتخلص أبدًا من الحيوان الذي يسكنه؛ بل يغيّر ثوبه فحسب."

وما إن هممت بترتيب دهشتي، حتى ظهر لي مشهد آخر، أكثر غرابة من سابقيه؛ كائن لا يعرف الصمت ولا الثبات؛ بل يقفز بخفة من كتفٍ إلى كتف، يصعد درجات لا يبنيها بجهده بل بجهود الآخرين، عندها عرفت أنني على موعد مع القرد المتسلق.

في صباحٍ آخر، رأيتُ القرد يمرح بين المكاتب، لم يكن يحمل أوراقًا ولا أفكارًا؛ بل كان يقفز بخفة بين الكراسي، يربت على أكتاف هذا، ويأخذ ملف ذاك، ثم ينتهي جالسًا بجانب المدير بابتسامة واثقة.

في اجتماعٍ مهم، عرض أحد الزملاء مشروعًا أرهقه أسابيع طويلة، وما أن بدأ يشرح تفاصيله حتى قفز القرد وقال بحماسة مصطنعة:

ــ "الحقيقة أنني كنتُ المشرف المباشر على هذا المشروع، لقد سهرنا الليالي حتى وصلنا إلى هذه النتيجة!".

تبادلنا نظرات الدهشة، المدير ابتسم له، ودوّن اسمه في قائمة "المنجزين "أما صاحب المشروع الحقيقي فابتلع مرارته في صمت.

بعد الاجتماع، اقتربتُ من القرد وقلت له:

ــ "لكنّك لم تكتب سطرًا واحدًا من هذه الخطة".

ابتسم بفخر وقال:

ــ "القائد ليس من يكتب؛ بل من يعرف كيف يصعد، أنا أصعد على أكتاف الجهود، وهذه هي مهارتي".

في عينيه لمحتُ قلقًا دفينًا، قلق كائن يعلم عجزه عن البناء بنفسه، فيختصر الطريق بالقفز على ظهور الآخرين. وفي داخله كان صوته يقول:

"-إن لم أستغل تعبهم، فلن أصل أبدًا".

تذكرت مقولة مكيافيللي:

"الغاية تبرر الوسيلة".. لكن القرد جعل الوسيلة نفسها غاية؛ فالتسلق عنده ليس طريقًا إلى هدف؛ بل متعة في ذاته، كطفلٍ يلهو على أكتاف غيره.

جلستُ بعد الاجتماع، أقلب بصري بين الوجوه التي تحيط بي، فإذا بي لا أرى وجوهًا؛ بل أقنعة متحركة كل قناع يتبدل بحسب الموقف قناع صارم، قناع مرن، قناع صاخب… حتى تاهَ عليّ الأصل من الزيف.

همستُ لنفسي:

ــ "أين الوجه الحقيقي؟ أريد ملامح لا تتغير مع الضوء ولا تتبدل مع الريح، أريد عينًا تُطابق ما تقول، وابتسامة لا تُستعار من حسابات المصلحة".

فأجابتني نفسي كأنها تفضح سرًا:

- "الوجوه الحقيقية نادرة، لأنها تتطلب شجاعة، أن تكشف عن ذاتك بلا أقنعة، يعني أن تعرّض نفسك للهجوم والخذلان، لذلك اختاروا التخفي، وبقي القليل من وجوهٍ صادقةٍ تنطق بما تعتقد، لا بما يُراد منها أن تقول".

أطرقتُ طويلًا ثم قلت:

- "ما جدوى العيش إن كان كل ما نرتديه وجوهًا مستعارة؟ إنني أبحث عن وجهٍ واحدٍ لا يبدله الخوف ولا يلوثه الطمع، وجهٍ يظل كما هو حتى لو خسر التصفيق، لكنه لم يخسر ذاته.

وفي استراحة الغداء، جلستُ في زاوية المقهى أرقب الزملاء، كان القرد يتنقّل بينهم بخفةٍ تشبه قفزاته في الغابة. بدأ بالمجتهد الصامت، جلس إلى جواره، وأخذ يتأمل ملفًا ثقيلًا بين يديه، ثم قال بصوتٍ عالٍ يسمعه من حوله:

- "كم تعبتُ على هذه الجداول، كنتُ أراجعها حتى ساعة متأخرة من الليل".

رفع المجتهد رأسه بدهشةٍ مترددة، أراد أن يتكلم لكنه ابتلع كلماته خجلًا من مواجهة الوقاحة. ابتسم القرد بثقة، ونهض بسرعة قبل أن يطول الحوار، لينتقل إلى مجموعة أخرى.

عند الطاولة الثانية، كان المدير يتناول قهوته، فانقض القرد سريعًا، وجلس ملاصقًا له، وبدأ يروي:

- "الحقيقة يا سيدي أنني لا أستطيع الصمت حين أرى خللًا، هذا المشروع الأخير لم ينجح إلا بفضل إشرافي المباشر، أما بقية الفريق فقد كانوا مجرد منفذين لتوجيهاتي".

هزَّ المدير رأسه مستمتعًا بحديثه، بينما الزملاء ينظرون في صمتٍ مثقل بالمرارة. اقتربتُ منه بعد أن أنهى جولته ويحدوني أمل أن يغير اجابته المتوقعة وسألته:

- "أما تخشى أن تُكشف يومًا؟ أن يدرك الناس أنك لم تحمل سوى نفسك بينما صعدت على أكتافهم؟".

ضحك القرد وهو يشُد ربطة عُنقه كأنها حبل تسلُّق جديد:

- "ومن قال إنني أصعد وحدي؟ إنهم السلالم التي صنعتها الطبيعة ليّ، وظيفتي ليست أن أبني؛ بل أن أعرف كيف أستعمل السلالم".

ثم أردف قائلًا بنبرة ملؤها الزهو:

- "أتعلمين يا صديقتي؟ أنا لا أرى في التسلُّق عيبًا؛ بل أراه فنًا، هناك من يولد ليكدّ على الأرض، وهناك من يبرع في القفز فوق الرؤوس، أنا أتقنت هذا الفن حتى صار حرفتي، قد يتعب غيري في حمل الأثقال، أما أنا فأعرف كيف أستعمل ظهورهم سلّمً، تلك مهارة؛ بل احتراف".

ابتسم ابتسامةً عريضة، ثم أضاف وهو يمد يده كأنما يرسم خطًا صاعدًا في الهواء:

- "التاريخ لا يذكر الحاملين؛ بل من وصل إلى القمة المهم أن تُرى في الأعلى، لا أن يُسأل عن الطريق الذي سلكته".

تأملتُه لحظةً، ورأيتُ في عينيه قناعة خطيرة لقد جعل من التسلق مهنة لا يتردد في إعلانها، ومن الاحتيال قيمة يتباهى بها، لم يعد يخجل من استغلال الآخرين؛ بل يراه علامة نبوغ ودهاء.

كتبتُ في دفتري:

"القرد لا يعتذر عن تسلقه؛ بل يفتخر به كما يفتخر الحرفي بصنعته. إنه يحوّل الخيانة إلى حيلة، والحيلة إلى براعة، والأنانية إلى شطارة. لكنه ينسى أن مجدًا بلا أصل، لا يزيد عن قفزةٍ في هواءٍ فارغ".

الأكثر قراءة