دلالات دعوة رئيس كولومبيا لتأسيس جيش دولي لتحرير فلسطين

 

 

 

خالد بن سالم الغساني

 

منذ اندلاع الحرب الأخيرة على غزة، والعالم يشهد فصلًا جديدًا من فصول العدوان الإسرائيلي الذي تجاوز كل الخطوط الحمراء، حتى تلك التي كانت في السابق محل تواطؤ أو تجاهل دولي.

مواجهة عسكرية بين قوة احتلال تملك أحدث الأسلحة وبين شعب أعزل يقاوم من اجل ارضه، إنها عملية إبادة بطيئة وواسعة النطاق، موثقة بالصوت والصورة، تتعمد فيها إسرائيل قصف البيوت فوق رؤوس ساكنيها، واستهداف المستشفيات والمدارس ومخيمات النزوح، في مشهد لم يترك للمجتمع الدولي ذريعة للتهرب من الحقيقة.

ورغم ذلك استمرت إسرائيل في عدوانها وكأنها فوق القانون، متحدية العالم كله، غير آبهة بقرارات الأمم المتحدة ولا بالمحكمة الجنائية الدولية، ولا حتى بموجات الغضب الشعبي التي اجتاحت العواصم الكبرى. هذا التحدي السافر كشف عن الوجه الحقيقي لكيان مرعوب من حقيقة انتهاءه، لا يعرف سوى القوة، ويفتخر بانتهاك القوانين والاتفاقيات، ما جعل الكثير من الأصوات الحرة ترى أن الصمت أو الاكتفاء بالشجب بات خيانة للقيم الإنسانية.

مشهد الأطفال الشهداء والنساء اللاتي يبحثن بين الركام عن ناجين، والآباء الذين يحملون جثامين أبنائهم، وقوافل النازحين المرهقة تحت الحصار والجوع، أكبر من أن يُحاصر في دائرة الإعلام التقليدي. العالم كله رأى بعينيه حجم الجريمة، ومع ذلك بقيت بعض الدول الكبرى تحمي إسرائيل وتمنحها الغطاء السياسي والعسكري والمالي، لتزداد الفجوة بين ما يراه الناس من مأساة يومية وما تبرره الحكومات من ذرائع. هذه الفجوة ولّدت غضبًا واسعًا، لم يقتصر على الشعوب وحدها؛ بل امتد إلى قادة دول شعروا بأن السكوت لم يعد ممكنًا. ومن بين هؤلاء برز اسم رئيس كولومبيا غوستافو بيترو، الذي وقف أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة ليطلق صرخة مدوّية: "يجب تشكيل جيش دولي لتحرير فلسطين".

دعوة بيترو لا يمكن قراءتها إلّا وفقًا للسياق الذي وُلدت فيه. فهو ليس رئيسًا لاتينيًا يبحث عن موقع في السياسة العالمية؛ بل قائد منتخب يمثل تيارًا سياسيًا جديدًا في أمريكا اللاتينية، يرفض الهيمنة الغربية التقليدية ويقف مع قضايا التحرر. ولعل موقفه من فلسطين ينسجم مع هذا النهج، حيث رأى أن الدبلوماسية أثبتت فشلها الكامل، وأن بيانات الشجب لم توقف آلة القتل، وأن استمرار الحديث عن “حل الدولتين” أو “المفاوضات” لم يعد سوى غطاء يطيل عمر الاحتلال. لذا جاءت دعوته بمثابة إعلان أن العالم بحاجة إلى فعل ملموس، وأن حماية الفلسطينيين لم تعد شأنًا يخص العرب أو المسلمين وحدهم، بل قضية إنسانية عالمية تستدعي تحركًا فوريًا.

دلالات هذه الدعوة عميقة ومتعددة؛ أولها أنها تكسر حاجز الخوف في الخطاب الرسمي داخل الأمم المتحدة؛ حيث جرت العادة أن يكتفي القادة بعبارات دبلوماسية فضفاضة، أما أن يُطالب رئيس دولة بجيش دولي لتحرير فلسطين، وهذا يعني أن مأساة غزة بلغت حدًا لم يعد السكوت عنه ممكنًا. وثانيها أنها تُعبِّر عن غضب عالمي يتجاوز الأطر الرسمية، فبيترو لم يتحدث من فراغ؛ بل من واقع ضغط شعبي عالمي يطالب بإنهاء الجرائم الإسرائيلية ومحاسبة مرتكبيها. وثالثها أنها أعادت إلى الأذهان فكرة التضامن الأممي الحقيقي، الذي شهدناه في تجارب تاريخية سابقة عندما توحدت شعوب العالم ضد نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا أو ضد الاحتلالات الاستعمارية القديمة.

ورغم أن تنفيذ الدعوة يبدو شبه مستحيل التحقق من الناحية العملية على الأقل في وقتنا الراهن؛ إذ كيف يمكن توحيد جيوش دول مختلفة تحت قيادة واحدة لمهمة محددة، وضد كيان غاصب تدعمه وتلهب وحشيته، دول استعمارية كبرى، وتمتلك حق النقض وعلى رأسها الإمبريالية الأمريكية، إلّا أن قيمتها تكمن في رمزيتها وتأثيرها السياسي والإعلامي؛ فهي رسالة إلى ساسة ومتطرفي الكيان الصهيوني، بأن جرائمهم لم تعد تمر مرور الكرام، ورسالة إلى الدول الكبرى بأن شعوب الأرض تراقب وتدين، ورسالة إلى الفلسطينيين بأن قضيتهم ما زالت حيّة في ضمير العالم. كما أنها قد تشكل بداية لخطاب سياسي أكثر جرأة من قادة آخرين، يضع دويلة الاحتلال في عزلة متزايدة ويجبرها على مواجهة الرأي العام الدولي.

نتائج هذه الدعوة بالتأكيد لن تظهر فورًا على شكل جيش يتحرك لتحرير فلسطين، لكن أثرها سيتراكم بمرور الوقت، يكبر ويتوسع، وستدفع بالمزيد من الدول وقادتهم الأحرار، اليوم أو غدًا، إلى اتخاذ مواقف أكثر صراحة وجرأة ضد الاحتلال، وربما تسرّع من إجراءات قانونية لمحاسبة إسرائيل في المحاكم الدولية. كما إنها قد عززت مكانة كولومبيا في الساحة العالمية كصوت للحق والحرية، حتى لو كلفها ذلك توترًا في علاقاتها مع الولايات المتحدة وحلفائها. وفي المقابل، فإنها تقدم للفلسطينيين دفعة وإيمانًا معنويًا كبيرًا، في الاستمرار والتمسك بخياراتهم النضالية، وبأن دماءهم لم ولن تذهب هدرًا، وأن في هذا العالم من لازال قادر على إنجاب قادة أحرار، قادرون على ان يرفعوا أصواتهم دفاعًا عن العدالة.

ما قاله الرئيس بيترو ليس خطابًا سياسيًا كشأن الخطابات المماثلة والمُعدَّة لمثل هذه المناسبة السنوية، إنه تعبير عن لحظة تاريخية يتقاطع فيها الغضب الشعبي العالمي مع جرأة بعض القادة في مواجهة منظومة الظلم الدولية. وإذا كانت إسرائيل قد راهنت طويلًا على تواطؤ الكبار وصمت المؤسسات، فإن صرخات كهذه تعني أن خطابها لم يعد مقنعًا، وأن جرائمها لم تعد قابلة للتبرير. لقد وضع رئيس كولومبيا إصبعه على الجرح، مؤكدًا أن التحدي اليوم لم يعد بين الفلسطينيين والإسرائيليين فحسب؛ بل إنه أصبح بين العدالة والظلم، بين الإنسانية والوحشية، بين عالم يحلم بالحرية وعالم يصرّ على استمرار الاستعمار بأشكال جديدة.

بالتأكيد لن نرى جيشًا دوليًا يتشكَّل قريبًا، وإن كان ذلك ليس ببعيد على الارادات الحرة، لكن مجرد طرح الفكرة على منبر الأمم المتحدة يُعد انتصارًا معنويًا للفلسطينيين وقضيتهم، وصفعة قوية للاحتلال، وتذكير للبشرية جمعاء بأن فلسطين ليست قضية إقليمية أو نزاعًا محليًا، كما تصورها الصهيونية العالمية وأمريكا والغرب الاستعماري؛ بل إنها قضية ضمير عالمي، قضية تختبر صدق الشعارات التي يتغنى بها العالم عن حقوق الإنسان، وتكشف من يقف حقًا مع الحرية ومن يختبئ خلف المصالح والحسابات الضيقة، ومن هنا، فإن دعوة بيترو ستظل علامة فارقة في الخطاب الأممي، ورسالة أمل إلى كل من يؤمن بأن الاحتلال مهما طال، فإنه لن يصمد أمام إرادات الشعوب الحرة.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة