وظائف بلا روح

 

 

 

خالد بن حمد الرواحي

كم من مُوظفٍ يستيقظ كل صباح ليذهب إلى عملٍ لا يحبه، ثم يعود آخر النهار ليكتشف أن يومًا آخر قد ضاع من عمره بلا أثر؟ وجوهٌ باهتة، مكاتبٌ مزدحمة، مُعاملاتٌ مؤجَّلة، وأرواحٌ يثقلها سؤال داخلي: «لماذا أفعل ما لا أحب؟». ومع مرور الوقت، تتحول الوظيفة عند كثيرين من رسالة حياة ومساحة عطاء، إلى قيدٍ يطوّق الروح ويخنق شغفها.

يقول أحد الموظفين بصدقٍ مُرّ: «لم أعد أعمل لأنّي أحب ما أفعل، بل لأنَّ الراتب ينتظرني في آخر الشهر». جملة قصيرة، لكنها تختصر معاناة شريحة واسعة من العاملين؛ عملٌ يوفّر قوت اليوم، ولا يترك في القلب أثر حياة. ومن يتأمل واقع بعض مؤسساتنا لن يحتاج إلى دليل طويل: طوابير تنتظر، معاملات تتأخر، واجتماعات تُعقد بلا أثر ملموس. هذه ليست مجرد عثرات إجرائية، بل انعكاس مباشر لغياب الشغف عن نفوس الموظفين.

يشبه العمل بلا شغف طريقًا مزدحمًا في ساعة الذروة؛ قد يبلغ بك وجهتك في النهاية، لكنه يسرق أعصابك وعُمرك كل يوم. يدخل الموظف مكتبه، يفتح بريده الإلكتروني، يردّ على رسالة ويؤجّل أخرى، ثم يرفع بصره إلى الساعة أكثر مما يرفعه إلى قيمة ما أنجزه. يخرج كما دخل: جسد حاضر، وروح غائبة. وظيفة كهذه قد تمنح راتبًا في نهاية الشهر، لكنها تسلب الإنسان أجمل ما في عمره: معنى الإنجاز وفرح العطاء.

ولا يتوقف الأثر عند حدود الأفراد؛ فالمؤسسة هي الأخرى تدفع الثمن حين يصبح الأداء مجرد «حد أدنى». تتضاءل الأفكار الجديدة، وتفقد الاجتماعات حرارتها، وتتحول الخدمات إلى روتين بارد. ومع مرور الوقت، تتآكل ثقة الناس، لأنَّ المؤسسة لم تعد مرآةً لطموحاتهم ولا سندًا لاحتياجاتهم. وفي بيئة مثل سلطنة عُمان، الساعية إلى تحقيق مستهدفات رؤية 2040، لا مكان لمؤسسات فاقدة للحيوية، ولا لوظائف تُمارس كواجب ثقيل بلا إيمان ولا روح.

وعلى مستوى الإنسان، يكون الثمن أشد قسوة. فوظيفة بلا شغف تعني مللًا مزمنًا ينهش الصحة النفسية والجسدية، وعلاقات تُثقلها اللامبالاة، وعمرًا يشيخ قبل أوانه. يعيش الموظف منتظرًا «اليوم الذي يعيش فيه حقًا»، لكنه لا يأتي أبدًا. عندها تغدو الحقيقة واضحة لا شعارًا: الحياة قصيرة. الشغف ليس ترفًا. والعمل بلا روح… موتٌ بطيء.

ومع ذلك، تبقى المسؤولية مشتركة. على الفرد أن يشعل شرارته الصغيرة بخطوات بسيطة: أن يربط عمله بهدف إنساني واضح، وأن يصقل مهارة تمنحه أفقًا أوسع، وأن يجرّب فكرة تُضفي على فريقه سببًا للابتسام. وفي المقابل، على المؤسسة أن تعيد تعريف علاقتها بموظفيها؛ ثقة تسبق الرقابة، وتمكين يسبق التعليمات، وتقدير يسبق المحاسبة. فأحيانًا تكفي كلمة شكر صادقة، أو فرصة للمشاركة في قرار صغير، لتُعيد الحياة إلى موظف كان على وشك الانطفاء.

ولكي لا تبقى الكلمات شعارات، فإنَّ مفاتيح الاستعادة معروفة ومجرَّبة: إضفاء المعنى بربط كل مهمة بأثر ملموس يراه الموظف في حياة الناس، وتوسيع الاستقلالية عبر منح صلاحيات حقيقية ضمن نطاق واضح، وترسيخ التعلم المستمر بوقت ثابت لتبادل المعرفة وصقل المهارات، ثم بناء ثقافة تقدير تُكافئ المبادرات الملهمة سريعًا بدل الاكتفاء بمراقبة الحضور والانصراف. وحين تتكامل هذه المفاتيح، يستعيد المكتب نبضه، وتستعيد الوظيفة رسالتها.

وهكذا يعود العمل من روتينٍ مملّ إلى رسالةٍ مُلهِمة، ويعود المكتب من جدرانٍ صامتة إلى مساحةٍ تنبض بالحياة. فالوظيفة بلا شغف ليست حياةً تُعاش، بل عمرٌ يتبدّد في الانتظار.

الأكثر قراءة