ثمن الانتظار

 

خالد بن حمد الرواحي

في حياة المؤسسات، ليست القرارات سواء؛ فبعضها يولد ليغيّر المسار، وبعضها يُحبس حتى يفقد معناه. ولسنا هنا لنعيب التأني إذا كان حكمة، بل لنكشف كلفة التردد حين يتحول إلى عادة. فقرار مؤجَّل قد يفتح أبواب الخسائر، ويهز ثقة الناس في الإدارة؛ ملفات تنام في الأدراج، ومشاريع تتجمد عند لافتة «قيد الدراسة»، وموظفون يترقبون فرجًا لا يأتي.

الوقت لا يرحم. والزمن لا يتوقف. وبينما تمضي الأيام، تتضاعف التكاليف ويتسع الإحباط، وكأن الإدارة اختارت أن تدفع فاتورة الصمت بدلًا من ثمن القرار.

ولعلَّ أوضح ما يبيّن خطورة الانتظار قصةُ مشروعٍ خدمي ظلّ معلَّقًا عامًا كاملًا؛ تضاعفت تكلفته، وفقد المواطنون ثقتهم فيه قبل أن يرى النور. وفي المقابل، حسمت مؤسسة أخرى قرارها في التوقيت المناسب، فأنجزت مشروعها بكلفة أقل، وأثمر مشروعًا بنتائج ملموسة أعادت الثقة وأشعلت الأمل.

الدرس واضح: القرارات ليست مجرد أوراق تُوقَّع، بل مصائر تُحدَّد بمقدار الشجاعة في الحسم.

اقتصاديًا، لا يختلف المشهد كثيرًا. فالتأجيل في توقيع عقد، أو إقرار مناقصة، أو اعتماد مشروع، يعني أن التكلفة تتضخّم مع كل يوم تأخير، وتضيع فرص كان يمكن أن تتحول إلى مكاسب ملموسة.

محليًا، كشفت دراسة بعنوان «تجاوز التكاليف في مشاريع البناء في سلطنة عُمان: دراسة حالة»، أعدّها باحثان من كلية الشرق الأوسط سنة 2021، ونُشرت في مجلة البحوث الطلابية (Journal of Student Research)؛ وهي مجلة أكاديمية دولية محكّمة تصدر من الولايات المتحدة الأمريكية – أن مشاريع البناء العامة في السلطنة شهدت تجاوزات في التكاليف بلغت في المتوسط نحو 33.3%، وذلك نتيجة التأخر في اتخاذ القرارات والبدء في التنفيذ.

وتشير تقارير دولية حديثة، من بينها تقارير "برايس ووتر هاوس" لعام 2023، واحدة من أبرز شركات التدقيق والاستشارات عالميًا، إلى أن أكثر من 60% من المؤسسات حول العالم تخسر فرصًا استراتيجية سنويًا بسبب تأخر اتخاذ القرارات. الفرص لا تنتظر. الأسواق لا ترحم. والانتظار ليس حيادًا؛ بل خسارة مؤكدة.

إداريًا، فإن ثقافة التأجيل تكشف عن غياب الحسم في القيادة. المؤسسات التي تتهرَّب من اتخاذ القرارات، أو تدفنها في لجان مطوَّلة، تغرس في نفوس موظفيها قناعة مريرة: لا جدوى من المبادرة، ولا فائدة من الأفكار الجديدة.

وكما يؤكد بيتر دراكر، رائد علم الإدارة الحديثة: «القرار المتأخر أسوأ من القرار الخاطئ، لأنه يضاعف الكلفة ويقتل الحافز». وفي مثل هذا المناخ، يفضِّل الموظفون الصمت على المشاركة، والتقليد على الابتكار، لتتحول المؤسسة إلى كيان جامد يفقد بريقه مع مرور الوقت.

وهذا المشهد لا يختلف كثيرًا في الوحدات الرقابية؛ فالمدققون يرفعون توصيات واضحة وضرورية، لكنها تبقى معلَّقة بانتظار قرار إداري لا يأتي. وكما أن الرقابة بلا صلاحيات تتحول إلى ديكور مؤسسي، فإن القرارات المؤجَّلة بلا حسم تُفرغ العمل الإداري من مضمونه. والنتيجة واحدة: جهد يضيع، وخلل يبقى، ليصبح الإصلاح مجرد شعارات معلَّقة.

وهذا يقودنا إلى جوهر المسألة: التمييز بين التأني الحكيم والتأجيل المضر. فالمؤسسات الناجحة لا تتسرع في قراراتها، لكنها أيضًا لا تسمح لها أن تبقى عالقة في الأدراج. هناك فرقٌ بين قرارٍ يُصاغ بهدوء ليُستوعب قبل أن يُعلن، وقرارٍ يُؤجَّل بلا مبرر حتى تتضاعف خسائره.

القرار المؤجَّل لا حياد فيه. بل شهادة صامتة على خلل لا يُعالَج.

وفي السياق الوطني، تمضي عُمان في مسار التحول المؤسسي المرتبط برؤية 2040، حيث يصبح القرار السريع المدروس ركيزة أساسية لإنجاح هذا التحول. إن المواطن العُماني اليوم لا ينتظر قرارات مؤجَّلة، بل ينتظر إدارة شجاعة تُدير الحاضر وتفتح أبواب المستقبل. فالمستقبل لا يُصنع بالانتظار، بل بالقرارات التي تتحول إلى فعل. والرؤية الطموحة لا تنتظر أوراقًا عالقة، بل تحتاج إلى إرادة قيادية تحسم وتواجه وتتحمل المسؤولية.

ومن هنا، يصبح القرار الحاسم ركيزةً للإصلاح الداخلي كما هو شرطٌ لنجاح التحول الوطني.

ختامًا.. القرار المؤجَّل ليس مجرد ورقة في درجٍ مُغلق؛ بل عبء يثقل كاهل الموظف، ويهز ثقة المجتمع، ويستنزف موارد الاقتصاد. وحدها القرارات الحاسمة هي التي تبني جسور الثقة، ووحدها الأوطان التي لا ترضى بالانتظار، قادرة على أن تُمسك بزمام حاضرها، وتكتب فصول مستقبلها بمدادٍ من الإرادة والعزيمة. فالانتظار يبدّد الفرص، أما القرار فهو الذي يصنع التاريخ.

الأكثر قراءة