عباس المسكري
في لحظةٍ مفصلية من تاريخ الصراع، تتكشّف ملامح مشروعٍ عسكريٍّ يتجاوز حدود غزة، ويعيد رسم خرائط الشرق الأوسط، منذ انطلاق عملية طوفان الأقصى، والكيان الصهيوني يشُن هجماتٍ انتقاميةً همجيةً على غزة، مستهدفًا المدنيين والبُنى التحتية بشكلٍ عشوائيٍّ وممنهج، هذا السلوك ليس جديدًا، لكنه هذه المرّة يترافق مع حشودٍ عسكريةٍ غير مسبوقة، تُثير أسئلةً مصيريةً حول النوايا الحقيقية وما يُخطّط له على المدى القريب والبعيد.
فقد واصل الاحتلال حشدَ قواته على حدود غزة، حتى تجاوز عدد الجنود سبعين ألفًا، مُدجّجين بالسلاح الثقيل، والمدرّعات، والطيران الحربي، هذا الحجم من القوات لا يتناسب مع طبيعة غزة، ولا مع حجم المقاومة فيها، ما يفضح مبالغةً مريبةً في الاستعدادات، ويكشف أن الهدف يتجاوز مجرّد "القضاء على المقاومة".
وهنا يبرز سؤالٌ جوهريّ، هل يحتاج شريطُ غزة الضيّق، المُحاصر والمُكتظّ بالسكان، إلى هذا الكمّ الهائل من القوات لإخضاعه؟ الواقعُ العسكريّ يقول لا؛ فالمقاومة، رغم صمودها وبأسها، لا تستدعي عشرات الآلاف من الجنود لمواجهتها، ما يُوحي بأن غزة ليست سوى ذريعة، أو مسرحًا أوليًّا لتحرّكاتٍ أوسع، قد تمتدّ إلى جبهاتٍ أخرى في المنطقة.
والأهمّ من ذلك، أن إسرائيل تُدرك جيّدًا أن إدخال هذا العدد من القوات إلى مساحةٍ ضيّقةٍ كغزة، سيُكلّفها خسائرَ بشريةً وماديةً فادحة، خاصةً في ظلّ تعقيدات الميدان، وتاريخ المواجهات السابقة، فغزة ليست فقط أرضًا محاصرة؛ بل هي عقدةٌ نفسيةٌ متجذّرةٌ في وعي الجيش الإسرائيلي، الذي يُعاني من فوبيا غزة، ويخشَى الدخولَ البريّ إليها، لما تحمله من مفاجآتٍ داميةٍ وتجاربَ مريرة.
تزداد الشكوك حول نيّة الاحتلال لتوسيع رقعة الحرب، خاصةً مع التهديدات المتكرّرة تجاه لبنان وسوريا، وتصاعد الخطاب الرسميّ حول "الخطر الإيراني" المزعوم، وهذا التحشيد قد يكون تمهيدًا لفتح جبهاتٍ جديدة، ما يُعزّز فرضية أن الهدف الاستراتيجي لا يقتصر على غزة وحدها؛ بل يتعدّاها إلى إعادة رسم خرائط النفوذ في الشرق الأوسط.
المعطياتُ الميدانيةُ والسياسيةُ تشير إلى أن الكيان يسعى لتنفيذ مخطّطٍ توسّعيّ، يتقاطع مع الرؤية التوراتية حول ما يسمى بـ"إسرائيل الكبرى"، ومع مشاريع إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية للمنطقة؛ بما يخدم الهيمنةَ الإسرائيلية، ويُقوّض أيّ مشروعٍ مقاومٍ أو مستقلّ.
أما الدور الأمريكي، فهو حاضرٌ بقوّة، وإن بدا في الخفاء، إذ تُوفّر واشنطن الغطاءَ السياسيّ الكامل، وتُغذّي آلةَ الحرب الإسرائيلية بالأسلحة والمعلومات الاستخباراتية، وتعمل على هندسة المشهد الإقليميّ، بما يضمن استمرارَ التفوّق الإسرائيلي، والتحشيدُ العسكريّ قد لا يكون قرارًا إسرائيليًّا صرفًا؛ بل جزءًا من إستراتيجيةٍ أمريكيةٍ أوسع، تتقاطع فيها المصالحُ الأمنيةُ والعقائدية.
وفي سياقٍ موازٍ، كشفت صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية عن استدعاء كافة الجنرالات الأمريكيين للاجتماع مع وزير الدفاع، في خطوةٍ نادرةٍ ومثيرةٍ للريبة. هذا الاستدعاء، الذي جاء في ظلّ التحشيد الإسرائيلي غير المسبوق، يُثير تساؤلاتٍ عميقة حول طبيعة التنسيق العسكري بين واشنطن وتل أبيب، وما إذا كانت الولايات المتحدة تُعيد رسم خطوط الاشتباك الإقليمي، تمهيدًا لانخراطٍ مباشر أو غير مباشر في عملياتٍ تتجاوز غزة، فمثل هذا الاجتماع لا يُعقد في سياقٍ عابر؛ بل يُوحي بأنّ هناك قراراتٍ استراتيجيةً تُطبخ في الغرف المغلقة، وأنّ الحشد الإسرائيلي قد يكون جزءًا من خطةٍ أمريكيةٍ أوسع، تُعيد توزيع الأدوار والنفوذ في الشرق الأوسط.
ومن جهةٍ أخرى، فإنَّ تزامن التحركات العسكرية مع اعترافاتٍ غربيةٍ متسارعةٍ بدولة فلسطين، يطرح تساؤلاتٍ مشروعة، هل هذه الاعترافاتُ خطوةٌ إنسانيةٌ متأخّرة، أم جزءٌ من "مسرحيةٍ سياسية"، هدفها امتصاصُ الغضب الشعبيّ العالميّ، مع منح الاحتلال هامشًا أكبر للتحرّك العسكريّ، تحت غطاء الشرعية الدولية.
وفي ظلّ هذه التطوّرات، يبرز سؤالٌ حساسٌ حول احتمال وجود دولٍ عربيةٍ متورّطةٍ أو متواطئة، بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشر، فبعض التصريحات الدبلوماسية والتفاهمات السرّية، تحت عناوين "التطبيع" أو "حماية الاستقرار"، تُثير علامات استفهامٍ كبرى حول المواقف الرسمية، وتضعها أمام اختبارٍ تاريخيٍّ لا يقبل التردّد أو الغموض.
المنطقة على شفير تحوّلٍ استراتيجيّ، والمقاومة لم تعُد قضيةً محلية؛ بل بوابةً لإعادة تعريف موازين القوّة، فإمّا يقظةٌ تُفشل المخطّط، أو انزلاقٌ نحو إعادة استعمارٍ بأدواتٍ جديدة.