حين صار الناس جنودًا بلا معركة

 

 

 

د. محمد بن ربيع بن عبدالله التوبي **

في زمنٍ لم تُقرَع فيه طبول الحرب، تحوّل الناس إلى جنودٍ يعيشون داخل ثكنةٍ ضخمة اسمها الحياة. لا تسمع فيها إلا وقع الأقدام المتسابقة نحو "المطامع"، ولا ترى فيها إلا وجوهًا متجهمة تترقّب سقوط غيرها لتتقدّم خطوة إلى الأمام. كأنّ العيش صار سباقًا في ميدانٍ لا يعرف راية نصر، بل يعرف فقط من بقي واقفًا بعد أن أُطيح بالبقية.

لم تعد المبادئ تُقاس بالقيم، بل بالمكاسب، من يتقن فنّ الصمت في وجه الباطل يُعدّ "حكيمًا"، ومن يرفع صوته بالحقيقة يُوصم بـ"التهوّر". وتلك الكلمات التي كانت تُلهب القلوب - كالصدق والإخلاص والأمانة - صارت شعارات تُقال في الاجتماعات وتُنسى عند أول اختبارٍ حقيقي.

في هذه الثكنة، لا أحد يعين الآخر على حمل السلاح، بل يضع له عثرة في الطريق كي يتعثّر ويسقط. التعاون أصبح عملة نادرة، يُستبدل بها الغدرُ والأنانية، كلٌّ يراقب الآخر بعينٍ متوجسة، يخشى أن يسبقه، أو أن يحظى بابتسامة من القائد، أو ثناءٍ عابر.

تبدّل حال الناس، فلم يعد الهدف هو الإصلاح أو الإتقان، بل الوصول بأيِّ وسيلة كانت. غابت الغاية النبيلة، وحلّت محلها الرغبة العارمة في التسلّق. من لا يملك جناحين من الرياء والمكر، يظلّ في القاع، ولو كان قلبه أنقى من السحاب.

قال أحد الحكماء: "من نافسك في الحق فهو أخوك، ومن نافسك في الباطل فهو عدوك وإن لبس ثوب الود".

لكن في زمن الثكنة، لا تفرّق بين الأخ والعدو، فالجميع يحمل رتبةً واحدة: "باحث عن مصلحة".

يا ليتهم علموا أن الحياة ليست معركةً ضد الآخرين، بل امتحانٌ مع النفس، وأن الرفعة الحقيقية لا تُنال بإسقاط غيرك، بل برفع نفسك إلى مقامات الصدق والعطاء.

كما قال الشاعر:

إذا كنتَ في كلِّ الأمورِ مُنافسًا // فمَن ذا يُصفّي في الودادِ صديقَا؟

وما نالَ مكرُ الناسِ خيرًا وإنّما // يبوءُ الفتى بالإثمِ حينَ يُريقَا

لنخرج من هذه الثكنة، ولنستعد إنسانيتنا التي سُلبت باسم "الطموح". فما قيمة الترقية إن كانت على أنقاض الثقة، وما معنى النجاح إن كان طريقه الخيانة؟

** أستاذ مساعد تقنيات التعليم بجامعة الشرقية

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة