مبادرة شبكة الأمان الوطني للخدمات الأساسية

 

 

أ.د. منصور القاسمي
الرئيس التنفيذي للأكاديمية العمانية اللوجستية

 

في زمنٍ تتداخل فيه الخدمات الأساسية مع أمن الإنسان وصحته وكرامته، يصبح سؤال المسؤولية المجتمعية أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى: هل يجوز أن تُقطع الكهرباء أو الماء عن أسرة لا تملك القدرة على الدفع؟ وهل يمكن أن نجد بديلاً يحقق التوازن بين حق شركات الخدمات في تحصيل مستحقاتها وحق الأسر الفقيرة في أن تعيش حياة كريمة لا تهددها العوز ولا يفتك بها الفقر؟

إن ما حدث لأسرة فقيدالوطن يونس الحسني ـ رحمه الله ـ يشكل جرس إنذار أشد وقعاً من أي منظومة إنذار مبكر، ويضعنا أمام لحظة مواجهة حقيقية مع واقع يتطلب إعادة التفكير جذرياً في أساليب التعامل مع المعسرين من المسرحين والمتقاعدين والفقراء وأصحاب الدخل المحدود، ممن يعجزون عن تأمين لقمة العيش أو الوفاء بالتزاماتهم الأساسية.

انطلاقاً من هذا الواجب الإنساني، تقترح الأكاديمية العُمانية اللوجستية مبادرة وطنية تحمل اسم "شبكة الأمان الوطني للخدمات الأساسية"، وهي مشروع وطني متكامل يهدف إلى ضمان توفر الكهرباء والماء والمأكل والعلاج للأسر المعسرة من خلال نظام رقمي واجتماعي متين يستند إلى أفضل الممارسات في اللوجستيات الإنسانية، ويعكس روح التكافل المتجذّرة في المجتمع العماني. وتأتي هذه المبادرة في وقت باتت فيه الحاجة ملحّة إلى حلول مبتكرة تحمي الفئات الأكثر ضعفاً من السقوط في دوائر الفقر المدقع، وتوفر لهم الحد الأدنى من الأمان المعيشي دون المساس بكرامتهم. 

وتقترح الأكاديمية إنشاء منصة وطنية موحدة تحت مسمى "منصة شبكة الأمان الوطني"، تكون مظلة جامعة للأسر المعسرة والمسرّحة وذوي الدخل المحدود والمتقاعدين ذوي المعاشات البسيطة. ويتم التسجيل فيها عبر ربط محكم وشفاف للبيانات بين الجهات الحكومية والخاصة، بما يضمن الدقة، ويمنع أية أعباء إضافية على المواطن، ويحفظ كرامته بعيداً عن أي وصمة اجتماعية.

ومن خلال هذه المنصة، تتكاتف الجهات المعنية مثل مجموعة نماء للكهرباء والماء، وهيئة تنظيم الخدمات العامة، وشركات الاتصالات، وصندوق الحماية الاجتماعية، لدراسة الحالات بدقة عالية واتخاذ قرارات تضمن تعليق قطع الخدمات الأساسية عن الأسر المسجلة وتحويل فواتيرها إلى خطط تقسيط ميسرة وسهلةً، مع إمكانية الإعفاء الجزئي أو الكلي للحالات الأكثر تضرراً.

وفي إطار تحديد الجهة المناسبة لإدارة هذه المنصة الوطنية، تقترح الأكاديمية العمانية اللوجستية بأن الأنسب لإدارة هذه المنصة وتحمل المسؤولية هو صندوق الحماية الاجتماعية، وذلك من خلال توفير آلية تمويل مستدامة تعتمد على تخصيص جزء من أرباح شركات الكهرباء والمياه، ومساهمات قطاع الطاقة والنفط والغاز، إضافة إلى دعم المؤسسات الأهلية والخيرية، لضمان حماية الفئات الفقيرة والمستضعفة من تراكم الديون التي قد تجرّهم إلى حالات إنسانية مأساوية لا تليق بسمعة هذا الوطن العزيز ولا بأبنائها.

كما تدعو الأكاديمية وزارة النقل والاتصالات وتقنية المعلومات إلى المبادرة الفورية – بالتعاون مع الشركات الوطنية العاملة في مجال التقنية والذكاء الاصطناعي – لإنشاء هذه المنصة الرقمية بصورة عاجلة لا تحتمل التأجيل، بحيث تتضمن نظاماً ذكياً قادراً على إصدار تنبيهات مبكرة للحالات المتعثرة وتحويلها تلقائياً إلى اللجان الاجتماعية بصندوق الحماية الاجتماعية قبل الوصول إلى مراحل خطيرة كقطع الخدمات أو الملاحقات القانونية. كما أن ربط المنصة بالجمعيات الخيرية وشرطة عُمان السلطانية والمؤسسات الصحية سيعزز من قدرتها على تقديم دعم متكامل يترجم معنى التكافل إلى ممارسة عملية.

إن الأكاديمية العُمانية اللوجستية تطرح هذا المقترح انطلاقاً من مسؤوليتها الوطنية، واستناداً إلى خبراتها وشراكاتها في تصميم الأنظمة المعقدة وإدارة التكامل المؤسسي؛ فاللوجستيات الحديثة لم تعد مجرد حركة شحن وتخزين وموانئ، بل أصبحت علماً محورياً في حماية الأرواح وضمان استمرارية الخدمات الحيوية، بل وتحويل التعقيد المؤسسي إلى كفاءة تخدم الإنسان ورفاهيته. ولذلك فإن هذه المبادرة ليست مجرد فكرة اجتماعية؛ بل مشروع وطني متكامل قادر على منع كوارث مستقبلية وتخفيف الأعباء عن الأسر المتعثرة في وطن أنعم الله عليه بالخيرات والمنجزات بقيادة حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم – حفظه الله ورعاه – الذي جعل الإنسان العُماني محور التنمية وغايتها.

وعليه، فإن مبادرة "شبكة الأمان الوطني" ليست مجرد برنامج، بل رؤية إنسانية تتجاوز فكرة الدعم المالي إلى حماية كرامة الإنسان، وترسيخ قيم الرحمة والتكافل، وتعزيز ثقة المواطن في مؤسساته ووطنه. وهي خطوة تعكس روح سلطنة عُمان الأصيلة، وتفتح الباب أمام مرحلة جديدة يكون فيها الإنسان محاطاً بالأمان لا مهدداً بفقدانه.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة

z