حافة السؤال

صناعة السفن.. رحلة حِسِّية وروحية وإبداعية

 

 

 

 

حمد الصبحي

 

لماذا صُور؟ لأنها منبع الحكاية الأولى: حكاية المُغامرة والاكتشاف، والهجرة والعمل، والسفر الطويل والأمل، والحب والصناعة.

صور هي المدينة الكبرى في صناعة السفن، ومدينة القلب للعالم، حيث يشرع البحر صباحه لأحلام الناس ويستدعي ذاكرة خصبة تحمل إرث الأسلاف في السفن والسفر.

في هذا السياق، جاءت الورشة التدريبية لصناعة السفن التقليدية، التي نظمتها وزارة العمل، لتكون درسًا حيًّا في الحرفة العُمانية الأصيلة. عشرون متدربًا من مختلف محافظات السلطنة اجتمعوا، يحمل كلٌّ منهم حلمًا صادقًا ورغبة عميقة في أن يكون جزءًا من رحلة إحياء هذا الفن العريق، الذي شكّل عبر القرون هوية البلاد البحرية وجسرها إلى العالم.

في المرحلة الأولى من التدريب، يبدأ المتدربون بتعلّم الأساسيات. وهنا لا تكتفي الأيدي بتقطيع الأخشاب وتجهيزها، بل تتعلّم العيون قراءة التاريخ، والقلوب فنّ الصبر والدقة. تتحول صور إلى متحف مفتوح على الهواء الطلق، حيث يتقاطع التعليم مع الإبداع، وتنتقل الحرفة من جيل إلى جيل بمفرداتها المليئة بالمهارة والحكمة. وعلى مدى ثلاثة أشهر، يعيش المتدربون بين النظرية والتطبيق، فيتعلمون أن الخشب لا يكذب، وأن كل قطعة تحمل في طياتها قصة بحرٍ وملاحٍ وحضارة مُمتدة عبر الأزمان.

ثم تبدأ المرحلة الثانية: الغوص في أعماق الحرفة. على مدى ستة أشهر، يتدرّب المتدربون على صناعة نماذج السفن التقليدية وفق الطرق المتوارثة. يتعرفون على أنواعها ومهاراتها، ثم ينتقلون إلى الإنتاج العملي، حيث تتحول الورش إلى منصات إبداعية. تعلو الأصوات بين المطرقة والخبرة والحلم، فيما تتحرك الأشرعة البيضاء على النماذج وكأنها تتنفس من روح البحر ذاته. كل قطعة خشب مشغولة هنا تحمل توقيعًا شخصيًا، وكل نموذج يُنجز هو شهادة على براعة اليد العُمانية وعمق ارتباطها بالتراث.

هذه التجربة ليست تدريبًا فنيًا فحسب؛ بل رحلة حسية وروحية يعيشها المتدربون بكامل تفاصيلها. يسمعون خرير الموج، ويشعرون بنسيم الرياح التي رافقت البحارة العمانيين عبر العصور. تمتزج الألوان بروائح الخشب والزيت، لتغدو الورشة لوحة حيَّة، حيث يتجدد الإبداع ويتلاقى مع إرث الأجداد.

ومع نهاية البرنامج، لا يخرج المتدربون بشهادات معتمدة وخبرة عملية فقط، بل بوعي عميق بالانتماء، وفخر راسخ بالموروث العُماني. يكتشفون أن الماضي ليس مجرد ذكرى؛ بل منصة للإبداع والابتكار. على ضفاف صور، تتحول الأخشاب والأشرعة إلى لغة تحكي حضارة عُمان البحرية، حيث يختلط صوت المطرقة بهواء البحر، والألوان بذاكرة زمن مضى، ليولد نموذج جديد يجمع بين التراث والإبداع.

ورغم مشقة العمل، يختتم المتدربون أيامهم بشعور الإنجاز، إذ يدركون أن كل نموذج مكتمل ليس مجرد قطعة خشب؛ بل رسالة تحمل عبق التاريخ وروح الشباب العُماني، ليكونوا سفراء لهذا الإرث أمام العالم، حاملي شعلة الحضارة البحرية نحو المستقبل.

وعلى الجهات المعنية أن تدفع مثل هذه المبادرات نحو مزيد من الورش والمختبرات، لما لها من أثر في تعزيز ثقافة الأسلاف، واستدعاء التاريخ البحري من أروقة المتاحف إلى فضاءات الحياة والعمل.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة