الجولات السامية.. ذاكرة وطن وتقليد راسخ

 

 

د. محمد بن خلفان العاصمي

الذين عايشوا بدايات النهضة المُباركة بقيادة المغفور له بإذن الله تعالى السلطان قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- يتذكرون كيف كانت الجولات السامية ذات طابع خاص، خلالها يُصاغ مستقبل التنمية في هذا الوطن العزيز، ومنها يرى القائد المُفدَّى إلى أي مدى امتدّت يد البناء والتعمير خاصة في ظل جغرافية ممتدة وشاسعة، وخلال هذه الجولات بدأت مسيرة البرلمان العُماني الخاص الذي يُعقد تحت قبة سماء مفتوحة، وفيه تسدى التوجيهات التي ترسم الطريق إلى الغد، وفي هذه الجولات كان لقاء الشعب بالمسؤول بلا مواعيد وانتظار.

ما يزال مشهد سيارات الموكب السامي وهي تشق الطرق الوعرة غير المُعبدة قادمة من جنوب عُمان العزيز إلى شمالها الشامخ، منظرًا راسخًا في أذهان الكثيرين ممن عايشوا مراحل النهضة المباركة، والصور في الذاكرة كثيرة لتلك المشاهد التي وقف فيها الموكب الميمون ليستريح تحت ظل شجرة، أو ليستمع لأحد المواطنين العابرين في الطريق أو عندما يقصد بعض الولايات التي تكون ضمن مُخطط الجولة السامية، تلك المشاهد التي رسمت علاقة الحاكم بشعبه ومدى القرب الذي يريده ليكون بينهم ومنهم.

ولا يكتمل مشهد الجولات السامية إلا بمشهد الجموع التي تصطف على جانبي الطريق، ترحيبًا بالمقدم الميمون، وتجديدًا للعهد والولاء، وتجسيدًا للترحيب الشعبي الذي يليق بالعاهل المُفدى، لم تكن تلك الجموع ترغب سوى في تسجيل لحظة عابرة توثقها العين لرؤية السلطان المُعظم، وكانت تلك الجموع تعلق أنظارها وأسماعها في السماء انتظارًا لصوت (الهليكوبتر) ومشاهدتها، والتي تعني أنَّ الموكب اقترب، وأن اللقاء قد حان، لتشتعل صيحات الترحيب المختلطة بالأهازيج والزغاريد والفنون الشعبية مع الورد المنثور في طريق الموكب.

ومن الجولات السامية انطلقت وارتبطت في الأذهان (هاتف البشرى) و(لتهنأ بما حزت من منصب) و(تزهو بك الأعوام) وكثير من أغاني النهضة الأولى، ومنها نبتت علاقة حب بين قائد أحب شعبه فأحبه الشعب فصدحت الحناجر مرددة (بالروح بالدم نفديك يا قابوس) ويا لها من مشاعر صادقة تشعل جذوة الولاء والانتماء والسمع والطاعة لهذا الحاكم العظيم، وفي مشاهد الجولات السامية وتقاليدها مئات الحكايات التي شهدتها سيوح عُمان التي مازالت تزهو بالتسميات التي أطلقها عليها القائد الخالد عليه رحمة الله تعالى.

واليوم.. يجدد حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم ين طارق المعظم- أعزه الله- في ذاكرة الشعب هذه اللحظات الجميلة من خلال الجولة السامية الكريمة؛ الأولى عندما شق الموكب الميمون طريق البر من محافظة ظفار، وخرجت جموع المستقبلين من أبناء الشعب ابتهاجًا وفرحة بمقدمه الكريم، هذا المقدم الذي أعاد للذاكرة ذلك الرونق الجميل، وأعاد لسيوح عُمان فرحتها وللمكان ذاكرة لا تنسى، ولها حنين لمن اعتادت عليه، لقد بعثت هذه الجولة السعادة في القلوب، وجددت عهد الولاء ورسخت تقليدًا سلطانيًا ساميًا اعتدنا عليه في وطن لا حواجز فيه بين الحاكم والمحكوم.

مشاهد الأطفال وهم ينتظرون مرور الموكب وفرحتهم وهم يشاهدون جلالة السلطان المعظم- حفظه الله- ما زالت تشد انتباه الجميع، هذه الأجيال التي ورثت حب السلطان وورثت الإخلاص له ولهذه الأرض الطيبة لم تكن تحتاج لدروس في كل هذا؛ بل انطلقت بعفويتها وقيمها تعانق المقدم الميمون، وترسل للعالم أجمع رسالة حب وشكر وامتنان لمن نذر نفسه لمستقبل مشرق وحمل الأمانة بكل رضا ومحبة رغم ثقلها وظروفها، فكان الفارس الذي حمل الخصال الطيبة وسار يعدو بها في طريق النهضة المتجددة يشق الصعاب بصمت وحكمة وابتسامة ووفاء.

كانت المشاعر مختلطة بين ذكريات الأمس ومشاهد اليوم، وأحسب أن العيون ذرفت الدموع لدى جيل عاش المشهدين، وعاصر النهضتين، ولا أشك أن هذا الحدث أعاد للأذهان صورًا عالقة في جدار الذكريات الفاخرة، ومما لا شك فيه أيضًا أن عُمان ابتهجت من جنوبها إلى شمالها، وأن الجولات السامية تقليد مستمر لا ينتهي لأنه ركن من أركان هذا البناء العظيم، وأن وجود الحاكم بين شعبه في هذه الجولات السامية تجسيد لقيم الحكم وركائزه ومبادئه، ودائمًا ستُردِّد الجموع (بالروح بالدم نفديك يا هيثم).

الأكثر قراءة