فاطمة الحارثية
الكيمياء البشرية كانت وستبقى لغزًا غيبيًا؛ ورغم البحث العلمي والدراسات، ما زلنا بعيدين عن التحكم به وتحويليه لخدمة الإنسان؛ لأنَّ فن إدارة الصراعات والتحكم في الطاقة النفسية، المتولدة من عدم الانسجام البشري الطبيعي، كان وما زال "غاية" وإن تعددت الوسائل؛ فالعلاقات الإنسانية يحكمها كيمياء طبيعي، وهو واقع بين الأفراد يمر على معظم الناس، والقادة على وجه الخصوص إن لم يكن جميعهم.
العلاقات الشخصية مليئة بالاختلافات وضعف الانسجام القيمي والسلوكي، كما لو أن العلاقات لا تستقيم ولا تتوافق- أي لا نملك السيطرة عليها-؛ نشبهه بالمواد الكيميائية التي قد تتفاعل بشكل عنيف، أو تنتج أدخنة وأبخرة وضغطاً عند مزجها؛ وفي بيئة العمل نجد كيمياء الطاقة النفسية، بين الموظفين، فقد يُظهر الموظفون توترات وصِدامات، وإذا لم تكن هناك قيادة واعية بالطبيعة البشرية والتفاعلات الإنسانية قد يؤدي هذا الى نتائج لا يُحمد عُقباها. وهنا تُعرَّف "القيادة الكيميائية" على أنها القدرة على إدارة هذه التفاعلات البشرية المتنافرة والمتجاذبة سلبا، وتحويلها من حالة ضغط وانفجار محتمل سلبي، إلى حالة توازن وتجاوب فعَّال إيجابي.
الوعي بالتفاعلات الإنسانية وإدراك أسبابها، ليس أمرًا سلسًا فنحن جميعنا بشر ونشترك في عوامل التفاعلات الإنسانية، ومسألة عدم الانسجام الفطري لم تترك أحدا منَّا، والاختلاف هو الوقوع في براثنه أو تداركه والتحكم بها، والكظم درجة من درجات النضج الإنساني، في مثل هذه المسائل، والإقرار بتأثيره العميق، يمكننا من اختيار القادة وفرق العمل، وأيضًا استثمار هذا التنافر وأحيانًا التجاذب بين الأشخاص إيجابيًا، والحد من إيقاد فتيل الصراعات السلبية بين المواهب. ولا يُخفى على أحد أن أصعب القيادات ليس بين الشخصيات المتنافسة بشدة؛ بل بين الشخصيات التي لا تتفق في الأسلوب والقيم والمبادئ، ومن هذا المفهوم يمكن صياغة التفاضل بين القادة ومهاراتهم.
قد يكون الذكاء العاطفي أداة مهمة في مثل هذه الحالات، وهل يكفي الذكاء العاطفي؟ وهل ما يُبنى في وجود القائد قد ينهار بغيابه؟ فنحن نعلم أنَّ الذكاء العاطفي ممتاز في التهدئة، فهم المشاعر، وإدارة اللحظة، لكنه لا يضمن الاستدامة إذا لم يُدعم بأدوات مؤسسية وثقافية؛ إذا ما البديل أو البدائل أو الأدوات التي تُبقي الأمور تحت السيطرة في حضور القائد وغيابه؟
قد يعارض البعض، بيد أن القاعدة تقول: إذا كان كل شيء يعتمد على حضور المسؤول/ القائد/ الأب فهذه شخصنة للقيادة، وأمر سلبي لاستدامة الأعمال، وعلى المؤسسات تدارك ذلك، بتحويل الأسلوب والضوابط والنماذج الناجحة، إلى نظام عمل واضح من سياسات وقوانين وقواعد تعامل وآليات تصعيد، فالنظام وجد للضبط وهو مستدام بينما الفرد القائد مؤقت، وعلى الشركات والمؤسسات التنبه لذلك وتنظيم الأمور بما يحفظ المواهب واستدامة الأعمال؛ وتعزيز ثقافة "ماذا نفعل عند غياب المسؤول"، يظهر أهمية الرقابة والقيادة الذاتية للأفراد، وبيان المسؤوليات بمعايير متفق عليها قصيرة ومتوسطة المدى، وتعزيز ذلك بممارسات قيم العمل المشترك، كالاحترام والالتزام والقدوة عمليا وليس بالكلام فقط؛ وبدل أن يكون القائد هو "الشرطي الوحيد" يزكي مهارات القيادة الذاتية بين أعضاء الفريق، أي صناعة مهارات ضبط داخلية، حيث يحفز الفريق بعضه البعض.
ومن خبرتي وجدتُ أن الاتفاقيات غير المكتوبة لها دور فعَّال، فالعقود النفسية العاطفية أو الاتفاقيات السلوكية المتفق عليها ضمنا، مثل كيف نتعامل في حال الخلاف؟ أو ما الخطوط الحمراء؟ يكون كميثاق إيجابي خاص بين الأفراد، سواء في العلاقات المهنية أو الاجتماعية.
ما نفتقده منذ عقود "التأثر بالقدوة"، فنحن في عصر فقدت القدوة الحسنة، فالمعايير انتهكت، والعولمة ابتلعت سمات القيم والمبادئ لمن صح أن يكون قدوة، ومع ذلك علينا الاستمرار بالمحاولات لصناعة القدوة الحسنة؛ سواء من علماء أو قادة أو مؤثرين بطريقة تحقق لنا الاستدامة والتوجيه المطلوب للأجيال.
هل المسؤول/ القائد/ الأب يمكن أن يجد نفسه جزءا من "الأزمة الكيميائية" مع نظرائه؟ جميعنا بشر ومن البديهي أن يُوجد التنافر الكيميائي بين القيادات بمختلف درجاتهم، ويصبح هناك صعوبة في التواصل أو التفاوض أو حتى اتخاذ قرارات مشتركة، ووجود الاتفاقيات الضمنية والسياسات الذكية، أحد أفضل الحلول، طبعًا بعيدًا عن سلوكيات التكتلات الحزبية، أو فتن قنوات الظل، حتى لا تتآكل صورة القيادة، وتدارك ما يتكبده الموظفون وسط اضطرابات القادة وصراعاتهم، وبالتالي الحد من أزمات الأداء واستدامة المؤسسة والمجتمع. وقد يصنع بعض المسؤولين حلولًا بإحلال "الوسائط/ وسيط" كنقاط اتصال، بين نظائره أو الأفراد، هنا وجب التنبه، إذا كان الوسيط مؤهلًا ومن صميم الموضوع؛ فالأمر طبيعيًا واحترافيًا، غير أنه، إن كان سلوك القائد لتفادي الاحتكاك والتصادم مع قادة آخرين أو أفراد، فهذا ليس حلًا؛ بل تأجيل للمشكلة وربما تعميقها؛ وبعض الحلول التي قد تحتوي التفاعلات الكيميائية بين القادة/ المسؤولين هو وجود أطراف محترفة محايدة، مثل لجان العمل أو المستشارين، ورغم التكلفة العالية لمثل هذه الحلول، يمكن استخدامها مؤقتا، حتى يتم إيجاد سياسات مستدامة مثل إعادة تعريف الأدوار، ووضوح المسؤوليات والحدود، مما يُقلل الاحتكاك، ويضع أرضية مهنية مشتركة، ويعزز إدارة العلاقات الصعبة باحترافية الاحترام الرسمي، وتقنين التواصل في قنوات رسمية، والتركيز على النتائج لا الأشخاص، والحد من تفاقم المسائل، حتى لا تصل إلى مستوى الموظفين أو الأفراد، وتتفاقم صراعات الظل بين مؤازر ومعارض، ويُجنب الصورة العامة للقيادات، ويجب على المسؤولين عدم التغاضي عن الصراعات الكيميائية تحت مسمى النضج أو الاحترافية، لأن ذلك قد يقود الى نتائج لا تُحمد عقباها .
إن طال...
نعيش على التجاذب والتنافر، قدر الله علينا، حتى يقضي أمرًا كان مفعولًا، فلست عدوًا لأحد، ولستَ ندًا لي، فارفق بنفسك فذلك الذي تتلاومون عليه، فتنة تُسقطكم أو ترفعكم، وما الكيمياء إلّا اختبار في مختبر الله العظيم على الأرض.