مدرين المكتومية
أحيانًا تتشكَّل لدى المرء انطباعات ربما لا تتماشى تمامًا مع حقيقة الأمور، وذلك من المُحتمل نتيجة لمؤثراتٍ خارجية مثل وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، أو صورة ذهنية ترسَّخت في الماضي ولم تتغير.. هذا ما حدث معي أثناء زيارتي للعراق الشقيق؛ إذ فاجأني مستوى الأمن والأمان في ربوع العاصمة بغداد، وأذهلتني جهود التنمية والتطوير المتواصلة، رغم أن هذا البلد ما يزال ينفُض غبار الحرب والصراعات عن كاهله.
وقد تشرفت بزيارة العراق بدعوة كريمة من إدارة مهرجان بغداد السينمائي الذين قدموا كل ما بوسعهم لخدمة ضيوف المهرجان.
وقد كان هذا المهرجان منصة مُتميزة لحالة من حالات التلاقي الثقافي والفكري حيث اجتمع المبدعون من الدول العربية والخليجية ودول شمال أفريقيا؛ فتحول هذا المهرجان إلى نسخة مصغرة من عالمنا العربي من المحيط إلى الخليج وجسد قيم التآخي والتعاون والشراكة.
والمواطن العربي في كل دولنا العربية يحمل جينات العروبة في داخله ولطالما كان العراق داعمًا أصيلًا للتوجهات العروبية انطلاقًا من إرثه التاريخي في مجالات العلوم والثقافة والأدب؛ حيث كانت بغداد والكوفة والبصرة منارات ثقافية وفكرية على مر العصور ورفدت الثقافة العربية بإبداعات خدمت ليس فقط المجتمعات العربية، ولكنها أيضا ارتقت بمسيرة الحضارة الإنسانية.
ما لفت انتباهي وزادني شعور بالفخر والاعتزاز أنَّ الكرم العراقي مع الشعب العُماني لم أجد له مثيلاً في أي من الدول التي زرتها، تستقل تاكسي يرفض أن تدفع الحساب، تذهب لشراء كتاب يرفض صاحب المكتبة أن يأخذ منك قيمة الكتاب، تذهب لمطعم يرفض صاحب المطعم أن تدفع الحساب تحت عبارة "أنت ضيف معنا" وهذا يعكس مدى الحب والاحترام الذي يكنه إخواننا العراقيون لنا نحن العُمانيين.
العراق بالنسبة لي منارة تضيء دروب حياتنا فالبلد الذي جاء منه بدر شاكر السياب ومحمد مهدي الجواهري ونازك الملائكة ومظفر النواب وعبدالرحمن منيف وكاظم الساهر وماجد المهندس وغيرهم كثيرون، يمثل لي لؤلؤة ثمينة وجوهرة غالية علينا أن نُحافظ عليها ليبقى العراق شامخًا مزدهرًا ومعطاءً كما ظل على مدى الدهر.
بغداد لم تكن محطة عابرة؛ بل سكنتني قبل أن أزورها، كنت أشعر بها في الحزن العراقي الأصيل الذي تلمسه عند كل الشعراء العراقيين منذ ملحمة جلجامش والبحث عن الخلود وحتى قصائد الجواهري المشحونة بالحنين والشوق إلى دجلة الخير، تجده في الغناء العراقي عند ناظم الغزالي وكاظم الساهر، وكما صدح ذات مرة شاعرنا بدر شاكر السياب: أصيح بالخليج: (يا خليجْ يا واهب اللؤلؤ، والمحار، والرّدى) فيرجعٍُ الصّدى كأنَّه النشيجْ (يا خليج يا واهب المحار والردى)، وفي قصيدة الجواهري "يا دجلة الخير يا أم البساتين"، وإلياس خضر بصوته الشجي الأصيل وهو يغني قصيدة مظفر النواب من الزمن الجميل "مرّينا بيكم حمد، واحنا في قطار الليل، واسمعنا دق قهوة وشمينا ريحة هيل"... و"هودر هواهم ولك، حدر السنابل قطا".
وعندما مشيت في شارع المتنبي بين الكتب والمكتبات أجدني تسكنني تلك الحالة الشعرية من الوجد قلما يأتي وأنا أمشي على ضفاف دجلة فتتزاحم في ذاكرتي الصور والذكريات التي سمعتها للكثير ممن زار العراق مثل قطار مسرع في ليل مظلم، يتذكرون كل شيء المسقوف والباشا وحلويات سما ورطب البرحي وتمر الخضري وأصوات الباعة، وكل هذا لا يفارق مسامعي رغم المسافات عن ذلك الزمن الجميل والبعيد.