اجعل من يراك يدعو لمن رباك

 

 

سلطان بن ناصر القاسمي

بينما كنت أتصفح أحد مواقع التواصل، لفتتني عبارة قصيرة لكنها بليغة في معناها: "اجعل من يراك يدعو لمن رباك".. عبارة تحمل في طياتها رسالة عظيمة تختصر فلسفة التربية، وتوجّه الأنظار إلى أن أثر الأخلاق لا يقف عند حدود الفرد؛ بل يمتد ليشمل الأسرة والمجتمع. هي تذكير بأن الأبناء مرآة آبائهم، وأن سلوك الفرد شهادة حية على جهد من ربّاه وأحسن توجيهه.

وقد روى لي أحد المشايخ قصة تُجسّد هذه الحكمة. إذ حضر رجل إلى مجلس ومعه ابنه الصغير الذي كان في حالة فوضى وحركة زائدة، فسأله الشيخ: ابنُ من أنت يا فتى؟ فأجاب: أنا ابن فلان. فقال له: نِعم الأب وبِئس الابن. سمع الأب ذلك، فردّ قائلا: أصوّب لك يا شيخ؛ بل قل نعم الجد وبِئس الابن، فالجد هو من ربّاني، أما أنا فلم أُحسن تربية ابني. حيث إن هذه القصة تكشف بوضوح أن التربية لا تتوقف عند فرد؛ بل هي إرث ممتد، وأن التفريط فيها قد يُلقي بظلاله على أجيال.

لقد جاء الإسلام بمنهج متكامل للتربية، يقوم على القدوة وغرس القيم منذ الطفولة. فالوالدان مسؤولان عن ربط الطفل بالقرآن الكريم منذ سنواته الأولى، بحيث ينشأ على حب كتاب الله والالتزام بأوامره. وهذا لا يتحقق بالإكراه؛ بل بالرفق واللين والتشجيع. فيكون من المناسب إشراك الطفل في حلقات التحفيظ، أو الاستفادة من الوسائل الحديثة مثل المصحف الناطق، أو قصص القرآن التي تُروى بطريقة جذابة تناسب عقله. وفي الوقت نفسه، ينبغي التوازن بين الجد والترفيه، وبين التعليم واللعب، حتى تبقى التربية شاملة ومتوازنة.

وقد رسم القرآن الكريم خطوطا واضحة في هذا الجانب، فقال تعالى: "رَبِّ هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا" (الفرقان: 74)، وجاء في وصية لقمان لابنه: "يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ"(لقمان: 17). وهذه التوجيهات الربانية ليست مجرد مواعظ؛ بل هي قواعد عملية في غرس المسؤولية والإيمان والصبر في نفوس الأبناء.

ومع ذلك، يواجه جيل اليوم تحديات تختلف كثيرًا عمّا عاشه الآباء والأجداد. فقد دخلت التكنولوجيا الحديثة بقوة إلى بيوتنا، وأصبح الهاتف الذكي واللوح الإلكتروني من أوائل ما يتعامل معه الطفل. وهنا تكمن خطورة جديدة: فإذا غابت الرقابة الواعية، فإن هذه الوسائل تتحول من أداة للمعرفة إلى أداة لهدم القيم. فكثير من الأطفال يتأثرون بما يشاهدونه في مقاطع الفيديو أو الألعاب الإلكترونية أكثر مما يتأثرون بتوجيهات والديهم، ما لم يكن هناك توازن في المتابعة والقدوة الحسنة.

وفي المقابل، يمكن استثمار هذه الوسائل ذاتها بشكل إيجابي إذا أحسن الوالدان توجيهها. فهناك تطبيقات تعليمية لتحفيظ القرآن، وأخرى لغرس القيم من خلال القصص المصوّرة والألعاب الهادفة. والطفل الذي يرى والده أو والدته يقرؤون القرآن يوميًا أو يلتزمون بالصلاة، سيتأثر بهم أكثر مما يتأثر بآلاف الكلمات التي تُلقى عليه. فالقدوة أبلغ من الوعظ.

كما أن التربية لا تنحصر في البيت فقط؛ بل تمتد إلى المدرسة والمجتمع. والمعلم الصالح قد يترك أثرا خالدا في حياة طالب، يغيّر مجرى حياته بالكامل. والبيئة المدرسية التي تُعزز القيم والاحترام، وتكافئ السلوك الإيجابي، وتصحح الأخطاء باللين، هي امتداد للتربية الأسرية. أما إذا انفصل دور البيت عن المدرسة، فإن الفجوة تتسع ويضيع الأبناء بين متناقضات التوجيه.

إن التربية ليست كلمات تُلقن ولا دروسًا تُحفظ؛ بل هي فعل يومي يتكرر حتى يصبح عادة وسلوكًا ثابتًا. قال تعالى: "وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا" (الشمس: 7-10). فالنفس بطبيعتها قابلة للخير والشر، والتربية هي التي تُنمّي جانب الخير وتضعف جانب الشر.

ومن يتأمل في التاريخ يدرك أن الأخلاق كانت دائما قرينة الدين، وأن الأنبياء والرسل جاءوا ليكونوا حملة راية الأخلاق. فالأخلاق ليست أمرا ثانويا في حياة الإنسان؛ بل هي العمود الفقري للمجتمع. وكل حضارة ازدهرت كان أساسها منظومة قيم واضحة، وكل مجتمع انهار كان سبب انهياره ضعف الأخلاق.

وهنا يظهر دور الوالدين من جديد؛ فهما ليسا مجرد معلمين أو موجهين؛ بل هما البيئة التي ينمو فيها الأبناء. ومن خلال الأجواء الأسرية المستقرة، والحوار الصريح، وتشجيع السلوك الإيجابي، وتعديل الأخطاء برفق، تتشكل شخصية الأبناء وتُبنى هويتهم الأخلاقية. وما أجمل أن يُكافأ الأبوان دون أن ينطقا بكلمة، حين يرى الناس أبناءهما فيقولون: رحم الله من ربّاكم.

إن الحكمة "اجعل من يراك يدعو لمن رباك" تختصر رسالة عميقة: أن تكون أنت البر الحقيقي بوالديك، ليس فقط بزيارتهم وخدمتهم، وإنما أيضًا بأن تكون صورة مشرقة تعكس تضحياتهم وتربيتهم. فالبرّ لا يقتصر على العطاء المباشر؛ بل يمتد إلى أن تترك خلفك سلوكا يرفع مكانتهم في أعين الناس، فيكون حسن خلقك شهادة صامتة على جهدهم.

ومن هنا، فإن أعظم ما يخلّده الإنسان في هذه الدنيا ليس المال ولا المناصب؛ بل أثر طيب يُحمد عليه، وأبناء صالحون يسيرون على خطاه. تلك هي الهبة الحقيقية التي يدوم أثرها بعد رحيله، وتلك هي الحكمة التي تلخصها العبارة: أن تجعل حياتك وسلوكك دعاء صامتا يرفعه الناس لمن أحسن تربيتك، فتكون أنت الوسام الحيّ الذي يزين جبين والديك.

الأكثر قراءة