تعذيب وسلخ وقتل.. فظائع سجون "سوريا الجديدة" في تحقيق خاص لـ"رويترز"

 

 

◄ "رويترز" تنشر تحقيقًا خاصًا موثقًا بالأدلة وشهادات الشهود

◄ الابتزاز وطلب الفدية وإهانة الكرامة.. سمات سائدة لدى قوات حكومة أحمد الشرع

◄ مراكز الاحتجاز تعاني من الاكتظاظ ونقص الغذاء وانتشار الأمراض

◄ الحكومة تقول إن عدد السوريين الذين أُفرج عنهم خلال العام الماضي يفوق عدد المحتجزين

◄ حكومة الشرع تكافح لتحقيق التوازن بين الإصلاح والعدالة

 

دمشق- رويترز

في اللحظة التي تلت فتح فصائل المعارضة لأبواب سجون بشار الأسد المروعة بدأت أول موجة من الاعتقالات في سوريا الجديدة.

فبينما كان السوريون يقتحمون مراكز اعتقال النظام السابق في ديسمبر الماضي بحثا عن أحبائهم الذين اختفوا في ظل حكم الأسد، وقع الآلاف من المجندين وضباط الجيش السوري، الذين تركوا مواقعهم العسكرية، في قبضة الفصائل المعارضة التي أطاحت بالنظام.

ثم جاءت الموجة الثانية في منتصف الشتاء: اعتقلت السلطات الجديدة المئات من أبناء الطائفة العلوية، التي تنتمي إليها عائلة الأسد، من مختلف أنحاء سوريا وكان معظمهم من الرجال. وتصاعدت وتيرة هذه الاعتقالات بعد انتفاضة قصيرة في منطقة الساحل في مارس آذار أسفرت عن مقتل عشرات من قوات الأمن، مما أدى إلى أعمال انتقامية أودت بحياة ما يقرب من 1500 علوي. ولا تزال هذه الاعتقالات مستمرة حتى اليوم.

وفي الصيف، بدأت موجة أخرى من الاعتقالات الجماعية هذه المرة في الجنوب بين الأقلية الدرزية. جاء ذلك بعد مقتل مئات في أعمال عنف طائفية، وسط اتهامات لقوات حكومية بتنفيذ عمليات إعدام ميدانية وانتهاكات أخرى.

وشهدت البلاد اعتقالات أخرى طالت مختلف الطوائف بذريعة الحفاظ على الأمن: عدد كبير من الأشخاص، كثير منهم من الأغلبية السنية في سوريا، اتهموا بأن لهم صلات مع نظام الأسد لم يتم تحديدها، ونشطاء حقوقيون، ومسيحيون يقولون إنهم تعرضوا للابتزاز من أجل الحصول على معلومات أو أموال، وشيعة اعتقلوا عند نقاط تفتيش لاتهامهم بأنهم على صلة بإيران أو جماعة حزب الله اللبنانية.

وكشف تحقيق أجرته رويترز أن بعض السجون ومراكز الاحتجاز التي كانت تضم عشرات الآلاف من المعتقلين خلال حكم الأسد، أصبحت اليوم مكتظة بسوريين تحتجزهم قوات الأمن التابعة للرئيس أحمد الشرع دون توجيه تهم رسمية.

جمعت رويترز أسماء ما لا يقل عن 829 شخصا تم اعتقالهم لأسباب أمنية منذ سقوط الأسد قبل عام، وذلك استنادا إلى مقابلات مع محتجزين سابقين وأفراد من عائلات معتقلين. وللوصول إلى هذا العدد، راجعت رويترز أيضا قوائم غير كاملة بأسماء المعتقلين أعدها أشخاص نظموا زيارات عائلية إلى سبعة مراكز احتجاز.

وتشير المقابلات وقوائم المعتقلين وشهادات متعددة عن الاكتظاظ في السجون ومراكز الاحتجاز إلى أن عدد المعتقلين لأسباب أمنية أعلى بكثير من العدد الذي تمكنت رويترز من جمعه.

وتكشف عشرات المقابلات أن بعض الانتهاكات التي كان السوريون يأملون أن تنتهي بسقوط الأسد عادت على يد رجال يعملون لصالح الحكومة المؤقتة: الاعتقالات التعسفية دون توجيه تهم أو وجود أوراق رسمية، استخدام بعض أساليب التعذيب والانتهاكات نفسها، بالإضافة الي حالات وفاة خلال الاحتجاز لا يتم تسجيلها. كما وقع بعض المعتقلين ضحية للابتزاز، بحسب مقابلات مع 14 عائلة. واطلعت رويترز على مراسلات خمس من هذه العائلات مع من يزعمون أنهم حراس في السجون أو وسطاء يطالبون بالمال مقابل إطلاق سراح أحد أقاربهم.

في ديسمبر 2024، تعهد الشرع بإغلاق "السجون سيئة السمعة" التي أنشأها الدكتاتور المخلوع. لكن تحقيق رويترز وجد أن ما لا يقل عن 28 سجنا ومركز احتجاز من عهد الأسد عادت للعمل خلال العام الماضي.

وذكرت وزارة الإعلام السورية ردا على أسئلة من رويترز حول نتائج هذا التقرير أن ضرورة تقديم المتورطين في الانتهاكات التي حدثت في عهد الأسد إلى العدالة تفسر العديد من عمليات الاعتقال وإعادة فتح بعض مراكز الاحتجاز.

وقالت الوزارة "أعداد المتورطين بجرائم وانتهاكات في سوريا في عهد النظام البائد كبير جدا نظرا لحجم الانتهاكات التي وقعت. هناك جرائم سابقة وهناك تورط في انتهاكات جديدة وتهديد للأمن والاستقرار من قبل مرتبطين بالنظام. إضافة إلى جرائم أخرى منها ذات طابع جنائي".

وقالت الحكومة إن عدد السوريين الذين تم الإفراج عنهم خلال العام الماضي يفوق عدد المحتجزين حاليا، لكنها لم تقدم أي أرقام محددة.

وتشمل مرافق الاحتجاز التي رصدها تحقيق رويترز سجونا رئيسية ومراكز اعتقال كبيرة تقع ضمن مجمعات ضخمة كان يديرها في السابق جهاز المخابرات التابع للأسد بالإضافة إلى مراكز احتجاز أصغر عند نقاط التفتيش ومخافر الشرطة.

ويفتقر المحتجزون في هذه المرافق إلى سبل الإنصاف القانونية، وأفادت 80 عائلة على الأقل بأنها فقدت أثر أقاربها لأشهر طويلة.

ويختلف مستوى السماح للمحامين وأفراد العائلات بزيارة المحتجزين من منشأة إلى أخرى. ووجدت رويترز أن توجيه تهم علنية للمعتقلين الأمنيين أمر نادر، بخلاف ما يحدث مع المتهمين بجرائم جنائية.

كما وجدت رويترز أن المعتقلين لأسباب أمنية ينقلون إلى سجون كانت تابعة لقوات المعارضة، بما في ذلك تلك التي كان يقودها الرئيس الشرع في معقله السابق بمحافظة إدلب بشمال البلاد. وانضم هؤلاء المعتقلون إلى سجناء محتجزين هناك منذ سنوات الحرب الأهلية لأسباب أمنية، وفقا لشهادات نحو 12 سجينا سابقا.

في مختلف أنحاء سوريا، تحدث معتقلون سابقون وعائلات معتقلين حاليين خلال مقابلات مع رويترز عن ظروف غير إنسانية عانوا منها هم أو أقاربهم أثناء احتجازهم، من اكتظاظ شديد ونقص في الغذاء وانتشار الأمراض الجلدية نتيجة نقص الصابون.

وأكد كل من المعتقلين لأسباب أمنية والمتهمين بجرائم عادية أن سوء المعاملة والإهمال متفشيان في مراكز الاحتجاز التي سجنوا فيها.

كما وصف 40 شخصا قابلتهم رويترز، كانوا معتقلين سابقين أو من عائلات المحتجزين، تعرضهم لسوء المعاملة وأحيانا للتعذيب، لا سيما في مراكز الاحتجاز غير القانونية.

ووثقت رويترز وفاة ما لا يقل عن 11 شخصا رهن الاحتجاز من بينهم ثلاث حالات قالت فيها العائلات إنها لم تعلم بوفاة أبنائها إلا بعد دفنهم.

في المجمل، أجرت رويترز مقابلات مع أكثر من 140 سوريا لإعداد هذا التقرير، من بينهم معتقلون سابقون وأقارب ومحامون ونشطاء حقوقيون. كما اطلعت رويترز على مراسلات بين حراس سجون وعائلات معتقلين، علاوة على صور توثق حالات تعذيب مزعومة.

لم تتمكن رويترز من التحقق بشكل مستقل من بعض تفاصيل روايات المعتقلين وعائلاتهم. غير أن روايات من قابلتهم رويترز اتفقت في تفاصيلها، بما في ذلك ما وصفوه من سوء معاملة في أماكن الاحتجاز.

وفي بيانها قالت الحكومة السورية "في مرحلة ما بعد الأسد نحن بحاجة إلى إعادة تأهيل المؤسسات القانونية والقضائية والأمنية"، وأضافت "وهنا تحدث كنتيجة طبيعية وحتمية لهذا الواقع الصعب بعض الفراغات تؤدي إلى وقوع نتائج سلبية تخالف السياسات في بعض الأحيان".

وقالت الحكومة إنها فرضت إجراءات تأديبية على 84 من عناصر قوات الأمن بسبب وقائع ابتزاز مرتبطة بالمحتجزين و75 عنصرا بسبب أعمال عنف.

ومنذ يناير، أعلنت وزارة الداخلية السورية عن اعتقال أكثر من 100 شخص بتهم تتعلق بانتهاكات مزعومة في عهد الأسد. ولا يشمل إحصاء رويترز هؤلاء الأشخاص الذين تم الكشف عن أسمائهم وتوجيه اتهامات محددة إليهم.

لا تصل الظروف الموصوفة في السجون ومراكز الاحتجاز إلى مستوى وحشية حكم الأسد. فقد أشرف الدكتاتور المخلوع على اختفاء أكثر من 100 ألف سوري خلال الحرب الأهلية. ولا تزال المقابر الجماعية التي أنشأها النظام لإخفاء جثث القتلى تُكتَشف حتى اليوم.

وبحسب تقديرات للأمم المتحدة في عام 2022، قتل أكثر من 300 ألف مدني سوري خلال الحرب. وحكم حافظ الأسد، والد بشار، سوريا بقبضة حديدية لا تقل وحشية وأشرف كلاهما على نظام اشتهر بالتعذيب والابتزاز والإعدامات خارج نطاق القانون على نطاق واسع.

لكن مدافعين عن حقوق الإنسان يقولون إن الاعتقالات الجماعية وحالات الاختفاء القسري تلقي بظلالها على حكومة الشرع التي وصلت إلى السلطة على وعد بإخراج سوريا من أكثر من خمسة عقود من حكم عائلة الأسد. وتواجه القيادة الجديدة صعوبة في الوفاء بتلك الوعود، كما وثقت رويترز ذلك في سلسلة تقارير هذا العام.

تتجاوز جهود إعادة بناء البلاد حدود سوريا. فقد اعتبرت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الشرع حليفا في تحقيق الاستقرار الإقليمي وجهود كبح تنظيم الدولة الإسلامية المتشدد.

وقال مسؤول كبير في الإدارة الأمريكية ردا على سؤال حول أوضاع السجون الواردة في هذا التقرير إن ترامب "ملتزم بدعم استقرار ووحدة سوريا وبأن تعيش في سلام داخلي وسلام مع جيرانها".

وذكرت مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان في بيان في الخامس من ديسمبر كانون الأول أنها تتلقى "روايات مروعة عن عمليات إعدام بإجراءات موجزة، وقتل تعسفي، وعمليات اختطاف" منذ سقوط الأسد.

وقال ثمين الخيطان، المتحدث باسم المفوضية لرويترز إن المفوضية غير قادرة على إعداد سجل شامل لحالات الاحتجاز الأمني. وأضاف "لا يزال من الصعب أن نحدد بدقة عدد الأفراد المحتجزين أو عدد الذين أُفرج عنهم، أو الحالات التي قد تصنف ضمن الاختفاء القسري... وفي بعض الأحيان، قد تتردد العائلات في الإدلاء بمعلومات خوفا من العواقب".

وفي 25 نوفمبر، تظاهر آلاف العلويين في المناطق الساحلية المطلة على البحر المتوسط ​​احتجاجا على الهجمات الطائفية وللمطالبة بالإفراج عن أفراد من طائفتهم اختفوا بعد اعتقالهم. وكانت هذه المظاهرات من بين الأكبر منذ سقوط الأسد.

وكان سجن صيدنايا في دمشق، الأسوأ سمعة خلال عهد الأسد كمركز للتعذيب والاختفاء والموت، من بين العديد من السجون التي أغلقت فور سقوط الدكتاتور. ولا يزال خاليا حتى الآن، وهو واحد من عدة مراكز احتجاز أعلنت الحكومة الجديدة إغلاقها. لكن رويترز وجدت أن موقعين في دمشق أعلنت الحكومة إغلاقهما، وهما سجن مطار المزة العسكري وسجن فرع الخطيب، استأنفا العمل خلال العام الماضي.

وقال عامر مطر، وهو صحفي ومخرج أفلام يتركز عمله في قضايا حقوق الإنسان إنه احتُجز في عهد الأسد لمدة أربعة أشهر في مراكز احتجاز مختلفة. وبعد سقوط النظام، زار عددا من مراكز الاحتجاز وصوّر وثائق بهدف مساعدة عشرات الآلاف من العائلات في العثور على ذويهم ومحاسبة الجناة عبر بوابة إلكترونية تسمى (متحف سجون سوريا) تتيح الوصول إلى الملفات والصور والأدلة التي يجمعها.

وحينما زار سجن فرع الخطيب في فبراير، مُنع من الدخول في البداية بحجة وجود سجناء بداخله، لكنه تمكن من الدخول وشاهد رجالا مكتظين في زنزانة كان قد احتجز فيها لمدة 16 يوما في عهد الأسد. كما زار مطر مركز احتجاز حرستا في دمشق، الذي كانت تديره سابقا شعبة المخابرات الجوية التابعة للأسد واشتُهر بممارسات تعذيب وحشية. أخبره الحراس بوجود سجناء جدد، لكنهم سمحوا له بالدخول.

وفي سبتمبر، كان مطر متوجها إلى لبنان حاملا معه تسجيلات لمقابلات مع عائلات سورية محفوظة على قرص صلب، حين أُوقف عند نقطة فحص الجوازات. وفي صالة المعبر الحدودي، فوجئ باقتياده إلى زنزانة قذرة واتهامه بتهريب وثائق سرية.

وحكى أنه رأى على الجدران عدة تواريخ مكتوبة بخط اليد تعود جميعا لعام 2025. عرف مطر من تجربته في ظل حكم الأسد كيف يترك أثره. فمزق علبة سجائر، ولفّ الرقاقة المعدنية الموجودة بداخلها على شكل رأس مدبب، وكتب "العدالة! حتى لو انهار العالم!".

"أنا الآن في سجن أكبر"

يتطلب تعهد الشرع ببناء سوريا جديدة محاسبة من مكنوا الأسد من ارتكاب جرائمه وفي الوقت نفسه، إخراج البلاد من أتون حرب أهلية مدمرة بدأت عام 2011 وانتهت بفرار الأسد إلى موسكو في ديسمبر الماضي.

وبينما كان الشرع يتعهد في منتصف ديسمبر من العام الماضي بإغلاق السجون، كانت قواته تحتجز جنودا من جيش الأسد بينهم مجندون أجبروا على أداء الخدمة العسكرية دون أن يكون لهم أي خيار في مكان أو طبيعة القتال. إضافة إلى بعض الضباط.

ويُحتجز هؤلاء جميعا في مراكز شهدت انتهاكات في الماضي، من دون وجود قوائم علنية بأسمائهم، كما لم تكشف الحكومة عن أماكن احتجازهم.

ولم توضح أيضا عدد الجنود المعتقلين أو ما إذا كانوا يعتبرون أسرى حرب وهو وضع يمنحهم حماية قانونية خاصة.

وحصل بعضهم على عفو بعد مفاوضات مع الحكومة، سواء عبر وساطات غير رسمية مع القيادات المجتمعية والناشطين ورجال الدين، أو مباشرة من خلال اللجنة العليا للحفاظ على السلم الأهلي وهي لجنة حكومية.

ومن بين الجنود الذين أطلق سراحهم بتدخل من لجنة السلم الأهلي، مجند سابق في منتصف العشرينات من عمره طلب عدم الكشف عن هويته. وكان قد فرّ إلى العراق مع انهيار حكم الأسد، ثم عاد بعد أن تعهدت القيادة السورية الجديدة باستجواب الجنود وإطلاق سراح من لم يرتكبوا جرائم منهم.

وقال إنه كان من بين أوائل المعتقلين بعد سقوط الأسد، وقضى ستة أشهر في سجن عدرا بدمشق، وأُطلق سراحه في مايو بعد اتصالات متكررة من عائلته مع لجنة السلم الاهلي.

ورغم مرور ثمانية أشهر على الإفراج عنه، لا يزال بلا وثائق تثبت براءته ويخشى أن يُعتقل مجددا في أي لحظة. وبدأت السلطات السورية إصدار بطاقات هوية لبعض الجنود السابقين، لكنه لم يحصل على واحدة بعد.

وقال الجندي الشاب، الذي نادرا ما يغادر منزله "أنا الآن في سجن أكبر". وتحدث إلى رويترز في مزرعة قرب البحر المتوسط، حيث تسبب الجفاف في تشقق الأرض تحت أشجار الحمضيات التي تملكها عائلته.

وتضم قوائم المحتجزين التي اطلعت عليها رويترز أسماء جنود محتجزين في سجون دمشق وحمص وحماة وعفرين. ويقبع هؤلاء الجنود في السجون مع مدنيين محتجزين لأسباب أمنية، ومتهمين بجرائم جنائية. وشارك منظمو الزيارات العائلية هذه القوائم مع رويترز.

وذكر معتقل سابق في سجن عدرا في دمشق، وهو من بين أكبر السجون السورية، أن الزنازين كانت مكتظة لدرجة أن السجناء اضطروا للنوم على جوانبهم.

وقال المعتقل السابق -وهو سُني- إنه لم يكن هناك دواء أو ماء ساخن للاستحمام. وحكى أن طعامه كان يقتصر على بضع حبات من الزيتون والتمر، وقطعة خبز واحدة يوميا. وخلال فترة احتجازه التي امتدت قرابة شهرين، فقد أكثر من 20 كيلوجراما من وزنه.

وذكرت الحكومة أن سجن عدرا يضم حاليا 3599 نزيلا، أي أكثر بقليل من طاقته الاستيعابية البالغة 3550 نزيلا، من بينهم 439 معتقلا أمنيا.

وذكرت في البيان عن جميع مرافق الاحتجاز "الواقع الحالي ليس هو الواقع المنشود لكن نحن في فترة بناء مؤسسات وإعادة تأهيل السجون ومع ذلك تم تحسين الحالة الإنسانية بشكل كبير".

ويصف معتقلون احتجزوا في المربع الأمني في كفر سوسة وفرع الأمن السياسي في المزة بدمشق بعضا من أقسى الظروف. كان كلا السجنين تحت إدارة أفرع المخابرات التابعة لنظام الأسد خلال الحرب الأهلية.

وقالت الحكومة لرويترز إنهما يستخدمان حاليا كمراكز احتجاز مؤقتة للموقوفين لحين الانتهاء من الإجراءات القانونية.

وأشار مطر، الذي زار سجن كفر سوسة في فبراير، إلى أن سجناء جددا بدأوا يشغلون أجزاء من السجن حينها، بعد أن أُخلي عقب سقوط الأسد.

وقال أحد المعتقلين، وهو علوي اعتقل مع شقيقه في منتصف مايو، لرويترز إنه احتجز في كل من كفر سوسة، والمزة الذي كان يستخدمه سابقا فرع الأمن السياسي التابع لنظام الأسد. وأضاف أن شكوى أحد الجيران من الضوضاء في شارعهم أدت إلى مداهمة منزل العائلة في مايو أيار من قبل قوى الأمن الداخلي، التي لا تزال تعرف باسمها السابق وهو جهاز الأمن العام.

واقتادهما الضباط بعد التحقق من هوياتهما التي تُشير إلى أن مسقط رأسهما هو اللاذقية، وهي منطقة ذات أغلبية علوية.

وفي المزة، قال إن 30 رجلا كانوا يتقاسمون زنزانة واحدة. رأى أخاه هناك مرة، عندما كان السجناء الجدد يحلقون رؤوسهم قسرا. أمر الحراس الرجال بألا يرفعوا أعينهم عن الأرض وهي ممارسة كانت شائعة في عهد الأسد.

ويحكي "كانت تلك أول مرة في حياتي اتسجن. تجربة قاسيه جدا". وهناك خضع للاستجواب لمدة أسبوع وتعرض للجلد بالأسلاك واتهم بأنه من أنصار الأسد.

وقال إنه نقل بعد ذلك إلى مركز احتجاز كفر سوسة الواقع أيضا في دمشق. رأى أخاه هناك مرة أخرى بوجه متورم ولم يتبادلا الحديث لأنه غير مسموح للسجناء بالتحدث مع بعضهم.

هناك، استجوبه محققوه الجدد لساعات عن دينه. "هل تصلي؟ هل تعبد الله؟" لكنه قال إن الأمر كان أسوأ بالنسبة للجنود السابقين "كانوا يخرجون من الاستجواب مكسرين، غير قادرين على المشي".

بعد أسبوعين من اعتقاله، غطى محقق عينيه وأجبره أن يبصم على ورقة لا يراها، ثم تم وضعه في سيارة. قال إنهم أنزلوه في أحد شوارع دمشق وأعطوه أمرا أخيرا "لا تنظر خلفك ولا تنزع عصابة عينيك حتى نرحل".

لم ير الوثيقة ولا يعرف ما كتب فيها. كما أنه لا يعلم مصير شقيقه.

التربح من الاعتقال

بقدر ما كان نظام الاحتجاز في عهد الأسد أداة لقمع المعارضة كان أيضا مصدرا لتحقيق أرباح هائلة للعاملين فيه من حراس وقضاة ومحامين. ووفقا لتقرير للأمم المتحدة صدر عام 2024، كانت "الرشاوى الضخمة" عاملا رئيسيا في ضمان إطلاق سراح المعتقلين أو تسريع إجراءاتهم القانونية.

وعلى الرغم من وعود الحكومة الجديدة بمكافحة الفساد، روت 14 عائلة وأربعة محامين تعرضهم لابتزاز مالي مقابل إطلاق سراح محتجزين. في معظم الحالات لم يكونوا على يقين من هوية الشخص الذي يتصل بهم عبر الهاتف طلبا للمال أو علاقته بعملية الاحتجاز.

وتتفاوت المبالغ المطلوبة بشدة. علي سبيل المثال طلب من عائلات المعتقلين العاديين -من مجندين ومزارعين وعمال- دفع مبالغ تتراوح بين 500 و15000 دولار. فيما قالت عائلات ضباط بالجيش، أو أشخاص كانوا يتمتعون بنفوذ في عهد الأسد أو يُعتقد أنهم ميسورون، إن المبالغ التي طلبت منهم كانت أكبر بكثير.

وأفادت ست عائلات بأن الفدية التي طلبها الشخص الذي تواصل معهم تجاوزت مليار ليرة سورية، أي 90 ألف دولار.

كان من بين المفقودين عدة أفراد من عائلة علوية واحدة اختفوا خلال عمليات القتل التي وقعت في مارس 2025 على الساحل. بدأت محادثة عبر تطبيق واتساب بين شقيقة أحد الرجال وشخص ادعى أنه من حراس السجن في نهاية مارس.

وتظهر إحدى المحادثات، التي اطلعت عليها رويترز، أن السجان طلب 3000 دولار نقدا مقابل إطلاق سراح جميع الرجال باستثناء واحد، زعم أنه توفي. حدد السجان مهلة للدفع.

عندما سألت العائلة عن أحوال الرجال قال السجان "شو تفتكري؟... تعذيب وشبح".

لم يكن لدى العائلة المال اللازم، ورفض السجان إخبارهم من الذي توفي من بين الرجال أو تقديم دليل على أن الآخرين ما زالوا على قيد الحياة.

وكتب السجان "ما بقي تدقولي (تتواصلوا معي) إلا للمصاري... لما تكون جاهزة تعالوا إلى إدلب".

تبادل السجان والعائلة الرسائل النصية حتى أكتوبر، لكنهما لم يتوصلا إلى حل.

شاركت عائلة أخرى تسجيلا صوتيا لمطالب بدفع 100 مليون ليرة سورية- ما يعادل 9000 دولار- مقابل ضابط في الجيش، يقولون إنه اعتقل في 31 ديسمبر 2024، أثناء توجهه لتسليم نفسه للحكومة الجديدة.

وفيما يلي نص المحادثة بين أحد أقارب الضابط وسجانه المزعوم، الذي اتصل من هاتف الضابط المحتجز في ذلك اليوم:

السجان: "تجيب 100 مليون وتيجي".

القريب: "ايش؟ 100 مليون. من وين اجيب؟ حتى لو بعت هذا المنزل، مش هيحصل 100 مليون".

السجان: "اسمع، اسمع، اسمع، مش هتشوفه مرة تانية".

وقالت العائلة إنها لا تملك المال للدفع ولم تسمع شيئا منذ ذلك الحين.

ويؤكد كثير من المحتجزين السابقين أن دفع المال لا يضمن السلامة.

وقال مزارع (50 عاما) من قرية على مشارف حمص إنه تعرض للاعتقال مرتين على يد عناصر قوى الأمن الداخلي.

في المرة الأولى، في مارس، توقفت شاحنتان صغيرتان تحملان شعار قوى الأمن الداخلي، نزل منهما رجال ملثمون مسلحون يرتدون زيا أسود. حاصروا منزله، وعصبوا عينيه وعيني ابنه الشاب، واقتادوهما إلى مركز الشرطة المحلي لاستجوابهما بشأن من يملك أسلحة في القرية.

وذكر أنهم ادخلوا رأسه وذراعيه وساقيه داخل إطار سيارة لشل حركته، وهي ممارسة تعرف باسم "الدولاب" بدأت في عهد الأسد. ثم انهالوا عليه وعلى ابنه بالضرب المبرح.

وأضاف أن محتجزيه كانوا يوجهون له الإهانات طوال فترة اعتقاله قائلين "أنتم كفار، أنتم خنازير". وأطلع المزارع رويترز على صور تظهر قدميه متورمتين وآثار غرز على كاحليه. وأكد أحد رجال الدين، الذي يعمل كوسيط مع قوات الأمن، صحة روايته.

قيل للمزارع إن دفع 4000 دولار سيضمن إطلاق سراحهما. ثم أطلق الضباط سراحه هو وابنه ليجمعا المبلغ المطلوب. وقال إن السيارة التي جاءت لتحصيل المبلغ كانت تحمل شعار الأمن الداخلي، مثل السيارات التي كانت تقل الرجال الذين اعتقلوه. لكن في اليوم التالي، وصلت سيارة أخرى تحمل الشعار نفسه لإعادته إلى مركز الشرطة.

هذه المرة، تعرض للضرب حتى فقد وعيه. وكان ذلك من حسن حظه. قال المزارع إنهم أعادوه إلى عائلته ملفوفا ببطانية، ظنا منهم أنه مات. قام أصدقاؤه بتهريبه هو وابنه خارج سوريا.

للسوريين مصطلحاتهم الخاصة بالتعذيب، والتي تشكلت على مدى خمسة عقود من الدكتاتورية واستمر استخدامها خلال 14 عاما من الحرب الأهلية. ووفقا لمعتقلين لدى الحكومة الجديدة، لا تزال هذه المصطلحات موجودة حتى بعد سقوط الأسد.

ومن بينها "الدولاب" الذي تعرض له المزارع. و"الشبح" وتعني تعليق المعتقل من معصميه. أما "حفل الاستقبال" فيحدث عند الوصول لمراكز الاحتجاز؛ حيث يصطف الحراس في الممر وينهالون بالضرب على المعتقلين الجدد.

قال شاب علوي إنه اعتقل في التاسع من مارس في اللاذقية بعدما خرج من منزله أثناء حملة قمع حكومية ردا على الانتفاضة المؤيدة للأسد.

اقتاده رجال يرتدون ملابس سوداء وسحبوا سترته فوق رأسه، ونزعوا حذاءه، وألقوه في سيارتهم للاشتباه في أنه كان يصور تحركات قوات الأمن بهاتفه.

يحكي الشاب أن سوء معاملته بدأ فورا "بحفل استقبال" في فرع الأمن العسكري بالمنطقة الساحلية "أمرني الجميع أن أنبح كالكلب. وضربوني بمؤخرات البنادق، وبقبضاتهم وأحذيتهم. شعرت أن حياتي انتهت".

وأضاف في حديثه الي رويترز أنه نقل من هناك إلى ثلاثة مراكز احتجاز أخرى في اللاذقية، جميعها كانت تستخدم خلال عهد الأسد، وكان لكل مركز منها حفل استقباله الخاص.

وحكي أنه تم تعليقه من كاحليه ووضع مسدس في فمه. ثم أودع في حجز انفرادي بلا نوافذ لمدة 20 يوما. وذكر الشاب أنه خلال نقله مرتين، فكر سجانوه في قتله وإلقاء جثته في البحر بسبب اكتظاظ الزنازين.

وأخيرا، بعد أربعة أشهر أفرج عنه وهو حافي القدمين. إذا لم يمنحه محتجزوه حذاء آخر بدلا من ذلك الذي تمزق عند اعتقاله.

لم تتمكن رويترز من التحقق من روايته بشكل مستقل، لكنها تتسق مع روايات عن سوء المعاملة قال ثمانية معتقلين سابقين على الأقل إنهم تعرضوا لها أو شاهدوا آخرين يتعرضون لها.

وكان الشاب من بين 53 معتقلا على الأقل تجاوزت مدة احتجازهم الحد القانوني البالغ 60 يوما دون إجراءات قضائية.

وقالت الحكومة إن "سياسة وزارة الداخلية متماشية مع القانون السوري" الذي يضمن، بحسب قولها أن "لكل محتجز حق أساسي في الاستعانة بمحام". وأضافت أن "عمليات التوقيف" تجري "ضمن الإطار القانوني الذي يتيح في بعض الحالات التوقيف خارج القضاء منها حالات منع حدوث خطر وشيك أو اندلاع أعمال عنف".

وفي أواخر نوفمبر، نشرت وزارة الداخلية مدونة سلوك جديدة لكافة العاملين بها تنص، من بين أمور أخرى، على "المحافظة على حقوق الإنسان وتوطيدها لكل الأشخاص ومعاملة الجميع بكرامة وفقا لما هو منصوص عليه في الاتفاقيات الدولية"، و"صون كرامة الإنسان وحقوقه وحرياته والامتناع عن جميع صور التعذيب"، مع السماح باستخدام القوة "في الحدود المقررة".

إرث الأسد

وثَّقت رويترز وفاة ما لا يقل عن 11 شخصا أثناء احتجازهم، وذلك من خلال التحدث مباشرة مع ذويهم، ومن بينهم ثلاثة قالت الحكومة إن وفاتهم قيد التحقيق. ولم تقدم الحكومة العدد الإجمالي للوفيات في الحجز، ولم تعلق على نتائج رويترز بشأنها.

ومن بين هؤلاء محتجز في كفر سوسة يدعى ميلاد الفرخ. وهو تاجر مسيحي (59 عاما) قالت عائلته إنه اعتُقل في 24 أغسطس بتهم إخفاء أسلحة، والعمل كتاجر سلاح، وبيع لحوم منتهية الصلاحية في محل جزارة يملكه.

وصفت عائلة الفرخ اعتقاله بأنه محاولة للضغط عليهم لدفع 10 آلاف دولار إتاوة حماية.

بعد أسبوعين، تمكن أحد نزلاء كفر سوسة من الاتصال بالعائلة لإبلاغهم بأن الفرخ يحتضر جراء التعذيب. وقالت العائلة إن اتصالا من مشرحة مستشفى جاء في اليوم التالي، التاسع من سبتمبر، لإبلاغهم بوفاته.

ألقي القبض على أحد الأقارب لمطالبته بتشريح الجثة قبل أن يتدخل مسؤول كبير في الأمن الداخلي ورجال دين، وخلص الأطباء إلى أن الفرخ توفي نتيجة ارتطام رأسه بالأرض إثر سقوطه وتم تسليم الجثة للعائلة. ولم تطلع عائلته بعد على تقرير التشريح أو أي وثيقة مكتوبة عن اعتقاله أو وفاته.

اطلعت رويترز على صور لجثة الفرخ التُقطت في المشرحة أظهرت ما يبدو أنه جرح دموي في مؤخرة رأسه.

في 25 سبتمبر، وبعد أن قدمت عائلة الفرخ التماسا للتحقيق في وفاته، أعلنت وزارة الداخلية أنها فتشت منزله وعثرت على قنبلة وهو ما تنفيه العائلة مؤكدة عدم وجود أي متفجرات في المنزل.

ووثقت رويترز وفيات أخرى عند حاجز تفتيش في طرطوس وسجن هناك، إضافة إلى أماكن احتجاز أخرى، بينها مركز شرطة في دمشق قرب الجامع الأموي.

وأبلغت ثلاث عائلات رويترز أنها لم تعلم بوفاة ذويها إلا بعد دفن جثثهم. من بين هؤلاء ثلاثة رجال اعتُقلوا في حمص في يناير، وهم جندي سابق وابناه، وكانا جنديين أيضا في عهد الأسد. وقالت عائلاتهم إنها رأتهم آخر مرة وهم يُقتادون من قبل عناصر الأمن الداخلي.

وأبلغهم مكتب المحافظ أن الرجال في السجن المركزي بحمص. وعلى مدى خمسة أشهر، قالت الأسرة إنها كانت تتوجه بانتظام للسجن لتترك الطعام والدواء والملابس النظيفة، وتستلم ملابس متسخة قيل إنها تخص المعتقلين الثلاثة. وأضافت أنها دفعت آلاف الدولارات لوسطاء مجهولين لكن لم يُسمح لها برؤية الرجال.

وبعدما استبد بالأسرة اليأس، توجه اثنان من الأقارب إلى مشرحة حمص، وأقنعا أحد الموظفين هناك بالاطلاع على صور رقمية لجثث مجهولة الهوية. حينها اكتشفت العائلة أن الرجال فارقوا الحياة منذ يناير.

وذكر اثنان من أفراد العائلة، في مقابلتين منفصلتين مع رويترز، أن تقارير التشريح المكتوبة أسفل الصور أشارت إلى أن الأب البالغ من العمر 62 عاما ذُبح. وأضافا أن أحد الابنين شوه وجهه وسُلخ جلده بينما قُتل الآخر برصاصة في وجهه. وأكدا أنه لم يُسمح لهما بالاحتفاظ بأي وثائق، بما في ذلك تقارير التشريح. ولم تتمكن رويترز من الحصول على الصور أو التقارير.

ولم ترد مكاتب محافظي حمص أو طرطوس أو اللاذقية على طلبات للحصول على تعقيب.

وتواصل الشبكة السورية لحقوق الإنسان، التي بدأت بتوثيق الانتهاكات في عهد الأسد عام 2011، إصدار تقارير شهرية عن الاعتقالات التعسفية. وخلال عام 2025، وثقت الشبكة 16 حالة وفاة في مراكز الاحتجاز في عهد الحكومة الجديدة.

وفي أحدث تقرير لها، الصادر مطلع ديسمبر، دعت الشبكة القادة الجدد في سوريا إلى تبني "قوانين تضع حدا لحقبة الاعتقالات التعسفية والاختفاء القسري المروعة".

كانت تجربة مطر في السجن في ظل الحكومة الجديدة قصيرة، لكنها مرهقة نفسيا. قال الصحفي والمخرج السينمائي إنه أُطلق سراحه في غضون 24 ساعة من نقطة التفتيش على الحدود مع لبنان دون توجيه أي تهمة إليه.

وقالت الحكومة في ردها على رويترز "كل مشتبه به بالعبث بالوثائق والأدلة جرى التعامل معه وفق الأطر القانونية، وهذا ما جرى مع عامر مطر".

ولا يملك مطر أي وثائق تثبت أنه احتُجز أو أُطلق سراحه.

وقال مطر "سقط النظام، لكن من يحكمون اليوم قرروا تحويل سجون الأسد إلى سجون جديدة. أقسم بالله، إنه أمر لا يصدق". وأضاف أنه لم يسترد القرص الصلب الذي صادره أفراد الأمن عند نقطة التفتيش. ووصل إلى لبنان بعد عشرة أيام، ولم يعد إلى سوريا منذ ذلك الحين.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة

z