أرض اللبان.. تاريخ إنسان وحضارة مكان

 

 

 

د. سليمان بن عمير المحذوري

abualazher@gmail.com

 

على مدار ثلاثة أيام من 14 إلى 16 سبتمبر 2025، احتضنت ولاية صلالة ندوة علميّة مُهمة بعنوان "ظفار في ذاكرة التاريخ العُماني"؛ وذلك بتنظيم من هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية. وقد دأبت الهيئة على إقامة مؤتمرات دوليّة وندوات محليّة تُسلِّط الضوء على الإرث التاريخي والحضاري الممتد لعُمان عبر العصور المتعاقبة، وبيان دورها في مسيرة الحضارة الإنسانيّة.

وما من شك أنّ الملتقيات العلميّة التي تستهدف الحواضر والمدن العُمانية لها دور مهم في توثيق الأبعاد الاقتصاديّة والثقافيّة والاجتماعيّة، وتوظيفها في مختلف جوانب التنمية المستدامة لمحافظات السلطنة. ومن هذا المنطلق ومن خلال 33 ورقة بحثية أسهمت ندوة ظفار في نبش نواحي متعددة من التاريخ العريق، والحضارة المتجذرة لمحافظة ظفار.

وبطبيعة الحال، أكسب الموقع الجغرافي محافظة ظفار ميزة استراتيجية بموقعها في جنوب سلطنة عُمان، وإطلالتها على بحر العرب الذراع الغربي للمحيط الهندي. ومنذ القِدَم رسّخت ظفار مكانتها التاريخيّة بين الأمم الحضاريّة بالتواصل التجاري مع مختلف الشعوب.  وما كان لهذا الاتصال الحضاري أن يتم لولا وجود أنشطة اقتصاديّة وزراعية متنوعة، وثروات طبيعية في كافة المناطق الظفاريّة، إلى جانب ممارسة النشاط الملاحي، وصناعة السفن التي تمخر عباب المحيط شرقًا وغربًا. عزّز ذلك شخصيّة الإنسان القاطن في سهول وجبال وبادية ظفار والذي كان له دور محوري في صناعة حضارة لا تخطئها العين؛ فالموانئ مثل سمهرم والبليد، والحارات، والأسواق، وكذلك المقابر القديمة تحكي قصص تنبئ عن عمق تاريخ المكان، وعظمة الإنسان في كل شبر منها.

ونظرًا لهذا الموقع الاستراتيجي الباذخ لمحافظة ظفار فقد حظيت بزيارات الرحّالة والجغرافيين والمستكشفين مثل ابن بطوطة، وماركو بولو، وتشنغ خه، وأفانسي نيكتين، وبرترام توماس، وثيسجر وغيرهم. هؤلاء الرحّالة دوَّنوا مشاهداتهم في مؤلفات وتقارير مهمة تكشف عن جوانب حضاريّة سياسيّة واقتصاديّة وثقافيّة واجتماعيّة خلال حقب زمنيّة مختلفة.

ولا مناص من القول إنَّ اللبان- أو الذهب الأبيض- يُعد علامة فارقة ارتبطت بظفار منذ القِدَم وما زالت إلى يومنا هذا؛ حيث تنتج المناطق الشرقيّة من ظفار أجود أنواع اللبان الذي يستخدم في بعض الطقوس الدينية والمناسبات إلى جانب تطييب المنازل، وعلاج بعض الأمراض، والصناعات التجميلية؛ مما أدى إلى زيادة الطلب عليه وبالتالي تحقيق أرباح وفيرة من بيعه. ولذا اشتهرت ظفار بتجارة هذه السلعة النادرة عبر شبكة طرق اللبان التي ربطت جنوب الجزيرة العربية بمناطق حوض البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي. ونتيجة لأهمية اللبان في التراث الإنساني فقد أدرجت اليونسكو مواقع أرض اللبان ضمن قائمة التراث العالمي الثقافي والطبيعي.

ختامًا.. لا بُد من التأكيد على أن أوراق العمل التي استعرضت في ندوة ظفار ألقت الضوء على جوانب متعددة حول جغرافية الأرض من مقومات بيئية ومعالم طبيعية، وتاريخ وحضارة المنطقة التي تعد من أقدم مناطق الاستيطان البشري في جزيرة العرب؛ إذ حددت المسوحات الأثريّة المستوطنات البشريّة القديمة في ظفار. كما إن النقوش السامية المكتشفة في ظفار كان لها اسهام في تطور الكتابة العربية؛ فضلًا عن الثراء اللغوي لا سيما اللغات العربية الجنوبية. وقد رصدت هذه الأبحاث التطور الحضاري، والحركة العلمية، والتنوع الثقافي كما وثقت القيم الإنسانيّة إضافة إلى السمات المعماريّة، والحياة الاجتماعيّة، والتواصل مع العالم الخارجي. وكل هذه النتائج يُمكن استثمارها بلا ريب في تنشيط السياحة الثقافيّة والبيئيّة، والتخطيط لجوانب تنموية وسياحة مستدامة في محافظة ظفار.

الأكثر قراءة