نظام رقابي بلا أسنان

 

 

 

خالد بن حمد الرواحي

في إحدى الجهات الحكومية، طُويت تقارير التدقيق الداخلي الأخيرة دون نقاش، وخرج الاجتماع كما دخل، بلا قرار واحد يستند إلى التوصيات المدونة فيها. كان الحاضرون يعلمون أن وحدة التدقيق موجودة شكليًا، لكنهم يعرفون أيضًا أنها بلا نفوذ فعلي. هذا المشهد، للأسف، لا يمثل حالة استثنائية، بل يتكرر في مؤسسات متعددة من القطاع العام.

في كثير من الجهات، تبدو وحدات التدقيق الداخلي على الورق مُتقدمة، وقد أُنشئت ضمن هياكل مؤسسية محكمة، وتضم كوادر مؤهلة. لكنها عمليًا لا تملك ما يكفي من الصلاحيات لتقوم بدورها الحقيقي في الحوكمة. فهذه الوحدات، التي يُفترض أن تكون خط الدفاع الأول ضد الهدر والفساد، كثيرًا ما تُقاد إداريًا من ذات الجهات التي يُفترض أن تُراقبها. وهنا يبدأ الخلل.

كيف يُمكن لجهة أن تراجع أداء مؤسسة، بينما هي خاضعة لها تنظيميًا وماليًا بالفعل؟ التقارير تُرفع، نعم، لكن كثيرًا ما تُوضع على الرفّ، والتوصيات تُكتب ثم تُنسى. بعض المدققين يعملون وسط ما يُسمى بـ"السرية المؤسسية"، وتُفرض عليهم قيود تجعل البعض يختار الصمت على أداء الواجب، خشية الضغط أو التهميش، رغم أن القانون- نظريًا- يفترض حمايتهم.

الاستقلالية ليست مجرد رسم خط تنظيمي منفصل، بل هي قدرة فعلية على الوصول إلى المعلومات، والحق في تقديم التقارير مباشرةً إلى الجهات الرقابية العليا، مع ضمان الحصانة من الإقالة أو التأثير الإداري. إن غياب الحصانة، وضعف الاستقلالية، يُقيدان حرية المدقق في كشف التجاوزات بموضوعية، ويجعلان من التقارير الرقابية وثائق شكلية في كثير من الأحيان. ومهما بدا الإطار الإداري منظمًا، فإنَّ غياب سلطة القرار يُحوّل هذه الوحدات إلى ديكور مؤسسي أنيق… لكنه بلا فاعلية.

ولا يقتصر التحدي على الهيكل فقط؛ بل يمتد إلى الكوادر والمهارات؛ إذ إن غياب التحفيز المهني، وقلة فرص التأهيل المتخصص، يُضعفان من قدرة المدققين على تقديم تحليلات رقابية متقدمة، ويجعل بعض الوحدات رهينة لروتين إداري لا يواكب التطورات المهنية المتسارعة.

أما على الصعيد التقني، فقد قطعت بعض المؤسسات خطوات لا بأس بها من برامج تدريب، وورش عمل، ومحاولات لتوظيف أدوات مثل الذكاء الاصطناعي، وتحليل البيانات، والبلوك تشين. لكن، رغم هذه المبادرات، لا يزال توظيف تلك الأدوات في الواقع محدودًا. وغياب البنية الرقمية الملائِمة، وضعف الصلاحيات الفنية، يُبقي التحوُّل الرقابي الرقمي في دائرة الشعارات أكثر منه في دائرة التطبيق. إن رفع كفاءة الرقابة لا يتأتى فقط بتوفير الأدوات، بل بترسيخ ثقافة مؤسسية تُؤمن بالتحول الرقمي كضرورة لا خيار.

والأمر لا يتوقف عند الأدوات؛ بل يمتد إلى الثقافة التنظيمية؛ إذ لا بُد من بيئة مؤسسية تؤمن بأهمية الرقابة، تشجّع على النقد البنّاء، وتُقدّر صوت المدقق، لا تُعاقبه. بيئة العمل التي تُكرّم المدقق بدلًا من إخراجه، وتتعامل مع المخالفة كمؤشر تحذيري لا كفضيحة، هي وحدها القادرة على الإصلاح. الرقابة لا تنجح إلّا إذا أصبحت جزءًا من التفكير اليومي، لا مجرد مرحلة لاحقة تأتي بعد وقوع الخطأ.

كما إن غياب آليات إلزامية لتنفيذ التوصيات الرقابية يُحوّل الكثير من الجهود إلى توصيات محفوظة دون أثر، ويُفرغ التدقيق من محتواه الإصلاحي. ومن المؤسف أن بعض الجهات تتعامل مع التوصيات كأوراق للعرض، لا كمحركات للتغيير. دون التزام حقيقي بالتنفيذ، تفقد التقارير الرقابية قيمتها، ويتكرر الخطأ ذاته، وكأن الرقابة وُجدت فقط لتوثيق ما حدث، لا لمنعه من الحدوث مُجدَّدًا. الحل لا يكمن فقط في تشخيص المخالفات؛ بل في إرساء نظام واضح لمتابعة الإجراءات التصحيحية، وفق مؤشرات أداء فعلية، وجداول زمنية مُلزمة.

ورغم كل هذه التحديات، لا يمكن إنكار أن سلطنة عُمان قطعت خطوات واعدة في تطوير منظومة الرقابة المالية، بدءًا من إصدار التشريعات المنظمة، مرورًا بتأهيل الكوادر، ووصولًا إلى المبادرات الرقمية في بعض الجهات الحكومية. هذه الأسس تُشكّل رصيدًا مهمًا يمكن البناء عليه. وما نحتاجه اليوم هو تفعيل الإرادة المؤسسية، لإعطاء وحدات التدقيق الداخلي ما تستحقه من دعم وثقة، حتى لا تبقى مجرد وحدات حاضرة… ولكن بلا نفوذ.

ومن هنا، فإنَّ تعزيز فاعلية وحدات التدقيق الداخلي لا يُمثّل مجرد إصلاح إداري، بل هو استحقاق استراتيجي يتقاطع مع أولويات رؤية عُمان 2040، التي تؤكد على قيم الشفافية، والحوكمة، وكفاءة الإنفاق، والتحول الرقمي. فالرؤية الوطنية لا يُمكن أن تتحقق بكامل زخمها دون بنية رقابية رصينة، تمتلك الأدوات والصلاحيات، وتحظى بالثقة، وتُحاسِب وتُحاسَب في آنٍ معًا.

الرقابة ليست ديكورًا مؤسسيًا. الرقابة الحقيقية تُقاس بمدى فاعليتها، وقدرتها على حماية المال العام، وتصحيح المسارات، ودعم القرار. ولن يتحقق هذا إلا عندما تتحول وحدات التدقيق الداخلي من "موجودة بلا أثر"، إلى "مؤثرة بجرأة وكفاءة". والسؤال الحقيقي لم يعد: هل لدينا وحدات رقابة؟ بل: هل نمنحها القدرة على أن تدق جرس الخطر؛ بل وتعضّ إن لزم الأمر؟

الرقابة التي لا تُقلق أحدًا، لا تحمي أحدًا!

الأكثر قراءة