قرار وزارة العمل.. خطوة جريئة

 

 

 

خالد بن حمد الرواحي **

في صباحٍ مختلف، ابتسم موظف في إحدى شركات القطاع الخاص وهو يقرأ رسالة من قسم الموارد البشرية: «تمت الموافقة على طلبك للعمل عن بُعد وفقًا للقرار الوزاري الجديد». لم تكن مجرد رسالة عابرة؛ بل إعلان عن مرحلة جديدة تُوازن بين الحرية والمسؤولية، وتجمع بين المرونة والانضباط.
ولم يكن ذلك الصباح استثناءً فرديًا؛ فقد صدر القرار الوزاري رقم (523/ 2025) عن وزارة العمل، ليمنح العمل عن بُعد إطارًا قانونيًا واضحًا في منشآت القطاع الخاص. وبموجبه أصبح هذا النمط من العمل معترفًا به داخل السلطنة، مع منع التعاقد مع عمالة من خارجها. وجاء القرار مصحوبًا بضوابط تحمي حقوق العامل وصاحب العمل، وتستند إلى أساس قانوني يضمن التطبيق الجاد.
ولم يقتصر القرار على مجرد الاعتراف بالعمل عن بُعد، بل وضع التزامات واضحة على عاتق منشآت القطاع الخاص؛ إذ ألزمها بإعداد قوائم بأسماء العاملين، وتوفير الوسائل التقنية اللازمة، ومنح الموظفين الصلاحيات التي تمكنهم من أداء مهامهم، إضافة إلى إنشاء أنظمة إلكترونية لمتابعة الأداء.
وفي المقابل، وضع القرار التزامات واضحة على العامل نفسه؛ إذ ألزمه بالالتزام بساعات الدوام المتفق عليها، واستخدام الوسائل التقنية المعتمدة، والحفاظ على سرية البيانات، وإنجاز المهام في مواعيدها. كما نصّ على أن يكون عقد العمل مكتوبًا يحدد البيانات الأساسية وآلية الإشراف، مع منح صاحب العمل حق إعادة الموظف إلى الحضور في حال الإخلال بالتعليمات أو تهديد أمن المعلومات، مع تأكيد أن العامل يتمتع بكامل حقوقه المقررة في قانون العمل أسوة بزملائه في مقر العمل.
أما في جانب الخصوصية، فقد شدّد القرار على حظر أي أنظمة مراقبة تنتهك الحياة الخاصة للعامل أو تستغل بياناته في غير أغراض العمل. وهنا تبرز معادلة دقيقة: كيف يمكن للشركات أن تتابع أداء موظفيها وتحافظ في الوقت نفسه على ثقتهم وصون خصوصيتهم؟
ولا يتوقف أثر القرار عند الجوانب التنظيمية، بل يمتد إلى الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية؛ إذ يخفف أعباء المواصلات والتنقل عن الموظف، ويمنحه مرونة أكبر للتوفيق بين حياته الأسرية والعملية. وفي المقابل، قد يشكل عبئًا ماليًا على المؤسسات الصغيرة والمتوسطة بسبب تكاليف الأنظمة التقنية. وهو توجه ينسجم مع الموجة العالمية التي تسارعت منذ جائحة كورونا، حين فرضت التكنولوجيا أنماطًا جديدة للعمل.
ومع وضوح مزايا القرار، يظل التطبيق العملي هو التحدي الأكبر. فثمة مخاوف من التشغيل الصوري للقوى العاملة الوطنية، كأن تُسجّل بعض الشركات موظفين على الورق فقط لتلبية النسب، بينما الواقع أنهم لا يؤدون أي مهام فعلية. كما أن مراقبة الالتزام بمنع التعاقد مع أي عامل خارج البلد تبقى صعبة في ظل سهولة الوصول إلى المنصات الرقمية العالمية.
وإلى جانب ذلك، تواجه الشركات معضلة الموازنة بين متابعة الإنتاجية عبر أدوات الرقابة الإلكترونية وبين احترام الخصوصية والحفاظ على الثقة. كما أن كلفة الالتزام قد تدفع بعض المؤسسات الصغيرة والمتوسطة إلى البحث عن طرق للالتفاف على الضوابط. وهنا يتعاظم دور وزارة العمل في تطوير آليات متابعة فعّالة تضمن جدّية التطبيق.
وبمنطق الخبرة العملية، لم يعد العمل عن بُعد مجرد خيار مرن، بل تحول إلى نقلة نحو بيئة عمل أكثر شمولًا واستيعابًا لاحتياجات الموظفين المتنوعة. كما أن وضوح الشروط التعاقدية يضمن تحديد الحقوق والواجبات بدقة ويقلل فرص النزاع، فيما يمنح التنظيم الجديد المؤسسات فرصة أفضل لاستثمار الكفاءات مع الحفاظ على مستوى إنتاجية مستقر. وبهذا يصبح العمل عن بُعد استثمارًا في مستقبل العمل المؤسسي، لا مجرد ترف تنظيمي.
ولا يتوقف أثر القرار عند نتائجه المباشرة، بل يتجاوزها ليترجم تطلعات «رؤية عُمان 2040» في بناء سوق عمل حديث يقوم على المرونة والتقنية واستقطاب الكفاءات. فالعمل عن بُعد لم يعد مجرد خيار بديل، بل أصبح ركيزة أساسية في تحديث بيئة العمل العُمانية ومواكبة التحولات العالمية.
ويبقى السؤال الأهم: هل سينجح القطاع الخاص في تحويل هذا القرار من التزام قانوني إلى فرصة استراتيجية؟ فالنجاح لن يُقاس بعدد العقود أو كثرة الأنظمة، بل بقدرة المؤسسات على بناء الثقة مع موظفيها، وبقدرة الموظف على إثبات انضباطه بعيدًا عن الرقابة المباشرة. وفي جوهره، لا يمثل العمل عن بُعد مجرد نص قانوني جديد، بل تجسيدًا لطموح موظف يسعى إلى توازنٍ أفضل بين حياته وعمله، ورؤية مؤسسة تتطلع إلى مستقبل أكثر مرونة وإنتاجية.

** باحث متخصص في التطوير الإداري والمالي

الأكثر قراءة