حمود بن علي الطوقي
على مدار يومين، عشتُ متعة معرفية ووجدانية مع كتاب عبدالله بن أحمد الحارثي (أبا اليقظان) "مشّاء في أروقة الثقافة"، الذي أهداني إياه عندما التقينا صدفة في سبلة البرج بقرية المضيرب بولاية القابل، شرعت في قراءة الكتاب واكتشفت وأنا أتنقل بين فصوله وأبوابه الخمسة أنه لم يكن مجرد سيرة ذاتية، بل شهادة حيّة على مرحلة مُهمة من تاريخ عُمان الحديث، وتجربة شخصية ملهمة بكل تفاصيلها.
عرفتُ الأخ العزيز عبدالله الحارثي منذ أن أسس "دار الخليل" عام 2006 ومقر الدار كان على ما أذكر في مدينة الخوض. تلك الدار التي شكّلت منارة معرفية وثقافية؛ حيث أنفق الكثير من المال والجهد لتبقى صامدة في وجه التحديات، واستمر نشاط الدار على مدار أربع سنوات لينقل بعد ذلك الجلسات واللقاءات الثقافية إلى منزله بمدينة القرم إيمانًا منه بأنَّ الثقافة هي الاستثمار الأجمل والأبقى. ومنذ ذلك الحين، تبيّن لي أنني أمام شخصية استثنائية تُؤمن بأنَّ الكلمة الصادقة والعمل الجاد هما السبيل لخدمة الوطن.
جاءت تجربة أبي اليقظان الكتابية في هذا الإصدار بأسلوب سلس وشيّق، ينتقل فيه القارئ بين الأبواب والصفحات مستمتعًا بالوصف الجميل، ومتعرفًا على الصور التي رافقت النصوص لتُضفي عليها بعدًا بصريًا مؤثرًا. وقد كنتُ محظوظًا أن أجد اسمي وصورتي بين صفحات الكتاب، وهو دليل على أن الكاتب لم يغفل أحدًا من أصدقائه ومعارفه، بل كان وفيًا في توثيق كل من شاركه رحلة الحياة.
الكتاب لا يروي سيرة فردية وحسب، بل يفتح أمام القارئ نافذة واسعة ليستذكر من خلالها سيرته الشخصية، إذ إنَّ معظم أبناء عُمان الذين وُلدوا قبيل عام السبعين وخلال السبعينيات من القرن الماضي مرّوا على محطات متشابهة: التعليم في القرى تحت ظلال الأشجار، والاحتفال بـ"التيمينة" بعد حفظ القرآن الكريم، ثم الالتحاق بالمدارس النظامية بعد تولي السلطان قابوس بن سعيد- طيّب الله ثراه- مقاليد الحكم في 23 يوليو 1970.
أما تجربة الكاتب مع التعليم فكانت أكثر خصوصية؛ فقد اغترب منذ طفولته، متنقلاً بين مدينة العين في الإمارات ودولة قطر طلبًا للعلم، ثم عاد إلى عُمان ليلتحق بدورات تدريبية في المؤسسات الحكومية بعد افتتاح المدارس. ورغم انشغاله بالعمل صغيرًا، ظل العلم بالنسبة له نبراسًا لا ينطفئ. فبعد عشرين عامًا من العمل، اتخذ قرارًا شجاعًا بأن يعود لمقاعد الدراسة، فالتحق بصفوف تعليم الكبار، واجتهد حتى نال شهادة الثانوية العامة، ليبدأ بعدها رحلته الجامعية في تسعينيات القرن الماضي.
وعندما عاد أبناء عُمان من الخارج متسلحين بالعلم والمعرفة، شدّ أبو اليقظان رحاله من جديد ليكمل دراسته العليا، مسافرًا إلى مصر ليلتحق في صفوف التعليم الجامعي وسط زملاء يصغرونه بعشرين عامًا. إنها قصة عزيمة وصبر وإيمان لا يتزعزع بأنَّ العلم لا يُحدّه عمر.
ومن المحطات اللافتة في سيرته، ما ذكره عن زمالته لعدد من الطلاب العُمانيين خلال سنوات الغربة والدراسة في العين وقطر ومصر؛ زملاء صار لهم شأن عظيم في عهد النهضة المباركة، فمنهم من تولّى مناصب وزارية، ومن أصبح وكيلاً للوزارة، ومن تدرج في السلك الدبلوماسي، ومن وصل إلى رتبة لواء في القطاع العسكري، فضلًا عن مؤرخين وكتّاب بارزين يُشار إليهم بالبَنان. وهذه الإشارة تعكس أن مسيرة جيله كانت جماعية، وأنَّ النهضة لم تصنعها فردية بقدر ما صنعتها كوكبة من الطاقات الطموحة.
تجربة عبدالله الحارثي لم تقتصر على التعليم أو العمل في الإعلام والدبلوماسية والعلاقات العامة، بل امتدت إلى السفر والترحال؛ إذ زار أكثر من 35 دولة خليجيًا وعربيًا وآسيويًا، وأفريقية والقارة الأوروبية وهو ما أمدّه بآفاق معرفية واسعة وثقافة متجددة، انعكست بوضوح في كتاباته وتجاربه.
"مشّاء في أروقة الثقافة" ليس مجرد كتاب، بل وثيقة معرفية تضاف إلى المكتبة العُمانية والعربية، وتقدّم لنا نموذجًا مُلهِمًا لشخصية عاشت بالعطاء والإخلاص والوفاء، وجعلت من الثقافة رسالة وغاية.
المتتبع لهذه الرحلة مع مشّاء والمسافة المتحركة التي لازمت الكاتب طوال ٦ عقود من الزمن سوف يلمس أن اهتمامه بالأدب والثقافة لم يكون مجرد شغف شخصي، بل فتح له آفاقًا واسعة ليكون ضمن الفريق المؤسس واللجنة التأسيسية لمجلة غدير، إحدى أهم المجلات الثقافية العُمانية التي نجحت في استقطاب أقلام ورموز الكتاب والمثقفين، من السلطنة والوطن العربي لتصبح منبرًا حيًا للحوار والإبداع وكذلك أحد الأسماء التي ساهمت في تأسيس الجمعية العمانية للكتاب والأدباء. كما نال الشرف بأن تم ترشيحه من قبل الأهالي والقامات الأدبية ليتولى رئاسة نادي المضيرب عام 1980 ليصبح بذلك المنصب أصغر رئيس ناد على مستوى أندية سلطنة عمان.
ومن الجميل أن نختم بأنَّ هذه التجربة بقدر ما هي سيرة شخصية، فإنها دعوة ضمنية لكل من يملك تجربة حياتية أن يسجّلها ويوثقها ليستفيد منها الأجيال القادمة. فالكاتب نفسه استلهم فكرة تدوين سيرته من العلامة الراحل الشيخ خلفان بن محمد العيسري – رحمه الله – ليضع بين أيدينا شهادة تُشجّع الآخرين على أن يحذوا حذوه، ويكتبوا تجاربهم، ليظل الأثر ممتدًا والعطاء حاضرًا.
أسأل الله أن يبارك في حياة الأخ العزيز عبدالله بن أحمد الحارثي، وأن يمدّه بالصحة والعافية، فالتجارب الملهمة مثله هي زاد الأجيال، ومنها نتعلم أن الإصرار على طلب العلم وخدمة الوطن هما أجمل ما يتركه الإنسان بعده.