لماذا تحتاج عُمان إلى "خطاب المال" الخاص بها؟
محمد بن أنور البلوشي
قراءة رواية "أطلس شرجد" لآين راند التي تتجاوز صفحاتها 1200 صفحة ليست مُهمة سهلة لشخص مشغول بين العمل والتدريس والأسرة والكتابة. لكن قراءة بعض الصفحات، وتدوين ملاحظات متفرقة، ومشاهدة الفيلم المقتبس عنها، كانت كافية لإثارة سؤال مهم في ذهني: كيف يُمكن ربط هذه الرواية باقتصادنا في عُمان؟
سألت نفسي ذلك مرارًا. والمفاجأة أن الإجابة قادتني مباشرة إلى واقعنا اليوم.
في رواية "أطلس شرجد"، يقف فرانشيسكو دانكونيا في القاعة الفاخرة، بين نخبٍ اعتادت تذوّق الرفاهية لكنها تنفر من فكرة أن تُحصَّل تلك الرفاهية عبر الجهد. يعلن فرانشيسكو أن المال ليس أصل الشرور؛ بل الشر الحقيقي هو الرغبة في الحصول على المال من دون تقديم قيمة. فحسب رؤيته، المال ليس ورقًا أو معادن، بل هو رمز لجرأة العقل، وقدرة اليد، واستعداد الإنسان للمجازفة والخلق والإبداع.
السياسيون لا يصنعون الثروة عبر توقيع القرارات؛ بل الذين يصنعونها هم الذين يفكرون، يبتكرون، يبنون، ويحوّلون الأفكار إلى واقع.
ورغم أن الرواية كُتبت في خمسينيات القرن الماضي عن مجتمع أمريكي متخيّل، إلا أن رسالتها تلامس واقع عُمان اليوم بعمق. نحن لا نقف في قاعة احتفال مثل فرانشيسكو، بل نقف في دولة تمر بأحد أعمق تحوّلاتها الاقتصادية والثقافية.
رؤية "عُمان 2040" ليست خطة اقتصادية فحسب، بل هي تحوّل ثقافي وأخلاقي أيضًا. إنها تسأل العُمانيين سؤالًا صعبًا لكنه ضروري: هل تريد ثروة لأنها وُلدت تحت قدمك فوق أرض غنية بالنفط؟ أم تريد ثروة تصنعها بمهاراتك وصبرك وطموحك؟
طريق يمنح الراحة… وطريق يمنح الكرامة. أيهما تختار؟
على مدى عقود، كان النفط بمثابة الدرع اللطيف الذي يحمينا من تقلبات العالم. بنى طرقنا ومستشفياتنا ومدارسنا. لكنه، دون أن نشعر، أسّس لنوع من الاعتمادية؛ فترسّخت فكرة أن الازدهار يأتي من الحكومة، لا من الناس.
أما التحوّل الذي نعيشه اليوم- من تنويع اقتصادي، وضرائب، وإصلاحات دعم، وتحفيز للقطاع الخاص- فليس مجرد تغييرات مالية. إنه تغيير فلسفي؛ انتقال من الثروة الموروثة إلى الثروة المكتسبة، من اقتصاد توزيع إلى اقتصاد إنتاج. باختصار، عُمان تعيش خطاب المال الخاص بها، ولكن عبر السياسات لا الروايات.
فرانشيسكو يحذّر من أن سقوط المجتمعات لا يحدث حين تنفد مواردها، بل حين تبدأ في خنق المبدعين والمنتجين. حين يصبح النجاح موضع شك، والتميّز موضع حسد، والبيروقراطية جدارًا أمام المبادرات، والسياسة أقوى من الكفاءة؛ عندها يفقد الاقتصاد عملته الحقيقية: دافع الإنسان للإنتاج. وهذه رسالة ينبغي على أي دولة تمر بمرحلة تحول أن تنتبه لها.
مستقبل عُمان لا يصنعه من هم في القمة فقط، بل يصنعه كذلك المفكرون، والمبدعون، ورواد الأعمال، وأصحاب المهن، والشباب الذين يقرّرون أن يبنوا قيمة بدل أن ينتظروا فرصة.
هناك حقيقة نعرفها جميعًا: كثير من الشباب ما زال يفضّل الطريق التقليدي؛ انتظار وظيفة حكومية، أو الاعتماد على الواسطة، أو الهروب من المخاطر. لكن جيلاً جديدًا يتشكل بصمت: شباب يريدون تأسيس شركات ناشئة، وفتح مقاهٍ، وكتابة روايات، وتطوير تطبيقات، وإدارة أعمال لوجستية، وتصميم برامج، والسير في طرق لا تشبه المسارات القديمة. هؤلاء هم "المنتجون" بحسب فلسفة الرواية. لا ينتظرون الثروة… بل يصنعونها.
لا يسألون: من سيعطيني؟ بل: ماذا يمكنني أن أبني؟
لكن لا يمكن تجاهل أمراض الاقتصادات النامية: سياسة المكاتب التي تكافئ الولاء بدل الكفاءة، البطء الذي يخنق الإبداع، والخوف من الكفاءات الذي يجعل البعض يعرقل المتفوقين. فرانشيسكو يسمي هؤلاء بـ"الناهبين"، ليس لأنهم يسرقون مالًا؛ بل لأنهم يسرقون المستقبل. الإصلاحات العُمانية في الحوكمة والشفافية خطوة مهمة، لكن التغيير الحقيقي يجب أن يكون ثقافيًا قبل أن يكون إداريًا.
يقول فرانشيسكو إن المال اختبار أخلاقي. طريقة كسبك له تعكس حقيقتك. إن اكتسبه العُماني عبر الإبداع، والتجارة، والتعليم، والهندسة، والكتابة، وريادة الأعمال، فإنَّ البلد سينمو بكرامة. أما إن جاء عبر الطرق المختصرة، والعلاقات، والاعتمادية، فسيصبح المال بلا قيمة… وبلا روح.
الحقيقة بسيطة.. الأمم لا تصبح عظيمة بالراحة؛ بل بالشجاعة، وعُمان اليوم تخوض اختبارًا صعبًا في الانضباط والابتكار والمرونة. القطاع الخاص يحتاج مساحة ليتنفس. رواد الأعمال يحتاجون دعمًا لا تثبيطًا. والتميّز يحتاج تصفيقًا لا حسدًا. والناس تحتاج أن تفهم أن المال ليس جائزة للامتياز الاجتماعي، بل انعكاس للقيمة التي يقدمها الفرد.
في النهاية، خطاب المال في "أطلس شرجد" ليس عن المال في جوهره؛ بل عن الكرامة؛ كرامة العمل، وكرامة العطاء، وكرامة السعي.
وعُمان اليوم تكتب فصلها الخاص من هذه الفلسفة. وإن نجحت؛ فثروتها الأكبر لن تكون تحت الأرض؛ بل في عقول أبنائها، لأنهم الثروة الحقيقية، وصُنَّاع الغد.
