من أين لك هذا؟!

 

 

 

د. محمد بن عوض المشيخي **

 

لا يمكن أن تنجح أي حكومة في هذا العالم إلّا بإعلان الحرب على الفساد بشقيه الإداري والمالي بدون هوادة على أن يبدأ هذا العمل الوطني من القمة من كبار المسؤولين في الدولة، ثم يتدرج نحو القاعدة العريضة من عامة الشعب؛ فغريزة حب المال والمناصب راسخة الأركان بين معظم الناس، وربما تشملنا جميعا بلا استثناء؛ لأن "النفس أمارة بالسوء" ليس فقط في مجتمعنا العربي؛ بل على مستوى شعوب العالم قاطبة إلّا من رحم ربي.

ومن العادات السائدة في المجتمع، الرغبة الشديدة لدى البعض نحو الحصول على المال العام بطرق غير شرعية؛ باعتباره مالًا سائبًا ويمكن الاستيلاء عليه دون ضوابط ووجه حق، وهذا جهل وانتهازية من بعض أفراد المجتمع، من رئيس ومرؤوس بكل أسف.

وأذكر منذ سنوات عديدة، كنتُ في نقاش مع مجموعة من الأشخاص حول أهمية حماية أموال الدولة وممتلكاتها، لكونها ملكاً للجميع كالمرافق العامة والأموال المخصصة للمشاريع الحكومية، والتي يفترض أن تخضع لمعايير حسن التخطيط وآمنة التنفيذ؛ والمساعدات المخصصة للفقراء والسيارات الحكومية التي تُستخدم خارج الدوام الرسمي وغيرها من الأموال التي تنفقها الدولة، وقد انصدمت بالرد الذي استمعت إليه من هؤلاء؛ والمتمثل بأن إذا امتنعنا والتزمنا بالقوانين، فتلك الأموال قد تذهب بلا رجعة للمُتنفِّذين من (الهوامير)، وذلك حسب الاعتقاد السائد لدى قاعدة عريضة من المجتمع، وليس لخزينة الدولة ومشاريعها المستقبلية لخدمة المجتمع العُماني كما يفترض.

من هنا يأتي دور جهاز الرقابة المالية والإدارية في غرس قيم أساسية مثل: النزاهة والحوكمة والشفافية ومبدأ عدم الإفلات من العقاب لمحاربة هذه الثقافة المدمرة التي تتعارض مع الدين الحنيف بالدرجة الأولى وكذلك مع توجه السلطنة لترسيخ دولة القانون والمؤسسات، لتحقيق العدالة والمساواة بين العمانيين، الذين يفترض أن يعيشوا فيها جميعًا مُتساوين كأسنان المشط؛ حيث إن هناك واجبات نحو الوطن كالولاء والإخلاص والأمانة والمحافظة على المكتسبات والإنجازات الوطنية. ويقابل ذلك الحقوق التي يفترض أن يحصل عليها المواطن؛ كالتعليم والعلاج والتوظيف وحرية التعبير وتوفير جميع الخدمات الأساسية التي يجب أن تقدمها الدولة لمواطنيها بدون تأخير، وذلك حسب النظام الأساسي للدولة الذي هو عبارة عن خارطة طريق واضحة المعالم للجميع في هذا البلد العزيز الذي ينعم أبناؤه اليوم في كنف النهضة المتجددة وقيادة رشيدة من سلطان حكيم مُحب لشعبه وغايته الكبرى العمل على توفير الحياة الكريمة للشعب العُماني، وقبل ذلك تطبيق القوانين والأنظمة والتشريعات التي تنظم سبل الحياة؛ انطلاقًا من القاعدة المعروفة "لا ضرر ولا ضرار".

وبالفعل يقوم هذا الجهاز الوطني بالدور المنوط به حماية المال العام من اللصوص وضعفاء النفوس الذين تتفتح شهيتهم لجمع المال بشتى الطرق الملتوية حتى ولو من الأموال المخصصة للمجتمع، من هنا أسجل أعجابي الشديد بجميع منتسبي هذا الجهاز رئيسًا وموظفين، والذي أصبح موطنًا للتميَّز والعطاء في خدمة الوطن والسلطان، وذلك لكي نُجنِّب بلدنا العزيز التحول إلى قائمة الدول التي ينتشر فيها الفساد وما أكثرها من حولنا في الإقليم.

صحيحٌ نحن لسنا في المدينة الفاضلة؛ فالفساد المالي عابر للقارات ومتغلغل في كثير من دول العالم النامي والمُتقدِّم على حد سواء، ومن حُسن الطالع هنا في عُمان نرى جهودًا جديرة بالتقدير من القائمين على مكافحة الفساد بكل أنواعه. ولعل الندوة التي نظمها جهاز الرقابة المالية والإدارية الشهر الماضي بعنوان "الحوكمة ودورها في حماية المال العام وتعزيز الشفافية" تُعد واحدة من الأهداف السامية للجهاز لتحقيق ترسيخ قيم الحوكمة والنزاهة والعمل على المكشوف لرفع راية عُمان خفاقة بين الأمم، فلا توجد زوايا مظلمة في الوزارات والهيئات الحكومية إلا تخضع لمراقبة وتفتيش المختصين في الجهاز. ففي العام الماضي على سبيل المثال، تلقى الجهاز 1378 بلاغًا لموضوعات تتعلق بمخالفات مالية وإدارية وبسلامة إسناد بعض المناقصات واستغلال المنصب العام لتحقيق مكاسب شخصية، والأهم من ذلك كله استرداد مائيات الملايين من الريالات لخزينة الدولة.

لا شك أنَّ تبعية جهاز الرقابة المالية والإدارية لجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله- مباشرةً، قد مَنَحَ الكادر الوظيفي ثقلاً ومكانة معنوية كبيرة جعلت من هذه المؤسسة تُبدع في خدمة المجتمع العُماني من ضلكوت إلى مسندم، مُطبِّقة في عملها الوطني مبدأ "من أين لك هذا؟". فلا أحد اليوم فوق القانون؛ وعلى وجه الخصوص الوزراء وكبار المسؤولين الذين في عهدتهم عشرات الملايين من الريالات والتي في الأساس تصرف في مختلف المجالات التنموية بهدف الارتقاء بالمجتمع العُماني وتحقيق أهداف رؤية "عُمان 2040".

وفي الختام، معركة القضاء على الفساد الإداري والمالي مُستمرة، ولا يمكن أن تتحقق دون تمكين جهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة من مراقبة جميع وحدات الجهاز الإداري للدولة؛ فالبعض يقدم مُبرِّرات غير منطقية للإفلات من التدقيق؛ فالذين يعملون تحت الأضواء الكاشفة والشفافية المطلقة لا يخافون من الكشف عن الأداء والموازنات؛ أو السؤال المنطقي: أين انفقت أموال الدولة ولمن صرفت؟ فالاستئناس بعيون المفتشين والمدققين، يمثل طوق نجاة للجميع من الوقوع في مُستنقع الفساد، وكما قيل في السنوات الخوالي "العدل أساس الملك".

** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري

الأكثر قراءة