أبي.. الغائب الحاضر

 

 

 

فايزة بنت سويلم الكلبانية

faizaalkalbani1@gmail.com

 

 

رحل أبي سريعًا، وكأنَّ الأقدار لم تُمهله وقتًا ليُودِّعنا، ولم تُمهلنا نحن لنتهيأ لفقده.. غاب جسده، لكن حضوره في قلوبنا ما زال نابضًا بالحياة، غابت ابتسامته، بينما ظلّ صداها يتردد في أذهاننا وكأنه ما يزال بيننا.
كان أبي رجلًا كريمًا، يميل إلى العُزلة بعيدًا عن صخب الناس، لكنه كان الأقرب إلى قلبي. لم ينادِني يومًا إلا بـ"الأميرة"، لقبٌ كان يختصر مكانتي عنده، ويُبهج قلبي.. واسمي الذي أحبه من شفتيه "فيووزة".. وكان ينتظر عودتي وإخوتي كل يوم خميس وكأنها مواسم من الفرح لا تتكرر.
منحني أبي ثقته مبكرًا، وفتح أمامي أبواب الحياة وكأنني أكبر من عمري... تلك الثقة صنعت مني ما أنا عليه اليوم، وعلَّمتني أن الحنان قوة، وأن الأمان ليس في الأشياء؛ بل في وجود أشخاص يشبهون أبي.
كان يحب الحديث عن الذكريات، يروي المواقف والتجارب كمن يفتح صندوقًا مليئًا بالدُّرر... حياته لم تكن سهلة، لكنها كانت زاخرة بالتحديات التي حوَّلها إلى دروس لنا، وإلى مخزون ثري من الحكايات... حتى لقاءاته البسيطة، مثل صداقته مع الأستاذ حاتم الطائي رئيس تحرير جريدتنا "الرؤية"، كان يرويها وكأنها جزء من قصة عُمر يستحق أن يحكيها إلى جانب الكثير من القصص والذكريات الرائعة.
الكثيرون يفقدون آباءهم، لكن هناك من يظل يتألم لمثل هذا الفقد، يُعاني بشدة من رحيل السند الحقيقي، فماذا يتبقى لأي أسرة بعد فقدان عمود الخيمة؟ نعم.. الأب هو عمود خيمة كل بيت، حتى لو لم يترك أبناءً صغارًا، أو أن جميع أسرته أصبحوا مسؤولين عن أسر أخرى ممتدة من نفس الأصل الراسخ. فقدان الأب انكسار للظهر، وغُصَّة في القلب لا تذوب أبدًا، وألم يظل يوجع صاحبه طيلة عمره. يقولون إن الزمن كفيل بالنسيان، وأقولُ إن الزمن يزيد من مرارة الفقد؛ ففي كل موقف سأحتاجُ فيه لأبي لن أجده بجواري، لن ينتظرني عندما أعود كل أسبوع إلى بلدتنا الهادئة، لن أسمع مرة ثانية صوته وهو يُناديني "فيووزة".. سأفتقد ابتسامته التي كنتُ أراها ترتسم على وجهه، حتى في أشد لحظات الحياة.
الأب هو ذلك الحُضن الدافئ الذي يُحيط الأسرة طيلة العمر، هو الذي يمنح الشعور بالأمان في جوف الليل، هو الذي يمنحنا الشعور بالثقة من أجل أن نتقدم إلى الأمام... كانت كلماته لي في كل محطة من محطات حياتي بمثابة نصائح ذهبية، وفي كل مرة كنتُ أطيرُ فيها إلى دولة خارج السلطنة، كان يحرص على أن يكون أول من يطمئن عليَّ. كانت رسالته أو مكالمته في الغربة جرعة حنان لا أستطيع أن أصفها، ولا يُمكن أن يُدركها سوى أولئك الذين يعلمون جيدًا نعمة الأب ووجوده في حياة كل إنسان.
أبي لم يكن عابرًا في حياتي؛ بل كان وتدًا راسخًا وجذرًا ثابتًا... رحيله المفاجئ كشف لي كم كان وجوده ركنًا أصيلًا لا يُستبدل... واليوم، وأنا أكتب عنه، أشعر أن الامتنان لا يكفي، ولا الكلمات تفي بحقه، لكن يبقى الدعاء هو الصلة التي لا تنقطع.
سلامٌ عليك يا أبي… ستظل الغائب الحاضر، وظلك سيبقى مُمتدًا في حياتنا.

الأكثر قراءة