أمريكا تستدعي "الصليبية" من المقابر

 

د. مجدي العفيفي

 

(1)

700 يوم من الحرب: واشنطن تُعلن عقيدتها الصهيونية على لسان سفيرها،

الإنجيليون الجُدد يحكمون السياسة الأمريكية: غزة في مواجهة لاهوت الدم

السفير الإرهابي هاكابي يكشف الوجه الحقيقي للتحالف الأمريكي ـ الصهيوني

من الفيتو إلى الفوسفور: كيف تدير أمريكا حرب الإبادة في غزة

تنفجر هذه العناوين الدموية في ثنايا هذه الأطروحة قفازا ناريا في وجه السفير الإرهابي هاكابي في تل أبيب..

(2)

حين يخرج سفير أمريكي، يفترض فيه أن يكون ممثلًا لدولة عظمى، ليقول بلا مواربة: «هذا صراع بين الجنة والجحيم، بين الخير والشر»، فهو لا يتحدث بلسان السياسة ولا بلغة القانون الدولي، بل ينطق بلسان قسٍّ إنجيلي متطرف هارب من قرون الحروب الصليبية، يلوّح بالصليب الملطخ بالدماء لا بميزان العدالة.

هاكابي في خطابه لا يعترف لا بحقوق الفلسطينيين ولا بالقانون الدولي ولا حتى بالشرعية الأممية. إنه يستبدل السياسة بـ"لاهوت الدم"، ويستبدل الإنسانية بـ"عقيدة الاصطفاء". من هنا نفهم خطورة ما قاله: إنه إعلان إلغاء كامل لوجود الآخر، فالفلسطيني بالنسبة له ليس إنسانًا ذا حق، بل «قوة شيطانية». وحين يتحول الخصم إلى شيطان، يصبح استئصاله واجبًا مقدسًا، لا جريمة.

(3)

بين «هيروشيما» و«غزة»: جنون متجدد، لا ننسى تصريحاته السابقة التي استدعى فيها شبح هيروشيما، مطالبًا الإرهابي الأكبر ترامب بإلقاء قنبلة ذرية على الشرق الأوسط. تلك ليست زلة لسان، بل رؤية ثابتة: الرجل يريد أن يُعيد العالم إلى لحظة ترومان، حين وقف رئيس أمريكي على أنقاض ناغازاكي ليعلن «النصر». لكنه ينسى أن ناغازاكي وهيروشيما ما زالتا تلعنان أمريكا حتى اليوم، وأن الحضارة اليابانية خرجت من تحت الركام، فيما بقي العار يلاحق البيت الأبيض إلى الأبد.

هاكابي بهذا الخطاب يكشف: أن العقل السياسي الأمريكي ـ حين يتعلق الأمر بالشرق الأوسط ـ لا يفكر بعقلانية، بل بعقل لاهوتي دموي يقدّس الحرب.

(4)

المسيح المسروق: أين يسوع في خطاب هاكابي؟

من المضحك ـ المبكي أن هاكابي يدّعي أنه يتحدث باسم «إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب»، وباسم «القانون والنور». أي نور هذا الذي يُلقى على أطفال غزة وهم يحترقون بالفوسفور الأبيض؟ أي شريعة تلك التي تبيح قصف المستشفيات والمدارس والملاجئ؟

المسيح الذي يعرفه العالم هو «يسوع السلام»، لا «يسوع الصواريخ». لكن الإنجيليين الجدد، من أمثال هاكابي، خطفوا المسيح وحوّلوه إلى جنرال يقود طائرات F-35. هاكابي ليس مسيحيًا بقدر ما هو كاهن في معبد الصهيونية، يردد تراتيلها ويرفع صلواتها القتالية.

(5)

«أساس الحضارة الغربية»: القناع الاحتلالي: حين يزعم هاكابي أن إسرائيل تدافع عن «أساس الحضارة الغربية»، فهو يقول لنا بوضوح: نحن لسنا أمام حرب حدود.. ولا أمام نزاع سياسي.. بل أمام إحياء كامل لروح الاستعمار، التي ترى أن «الغرب» هو معيار الحضارة، وأن كل ما هو غير غربي همج وظلام يجب إخضاعهم أو إفناؤهم.

إذن، القضية الفلسطينية ليست مجرد أرض محتلة، بل هي المختبر الأخير للصراع بين مشروعين: مشروع الهيمنة الغربية/ الصهيونية، ومشروع التحرر الإنساني الذي يمثله الفلسطينيون.

(6)

«ليست حربًا دينية»؟ عجائز الوسطية في مأزق الطامة الكبرى أن بعض الأصوات في عالمنا العربي والإسلامي ما زالت تصرّ أن الصراع «ليس دينيًا»، وأنه نزاع على الأرض والموارد فقط. هؤلاء هم ـ كما تسميهم ببلاغتك ـ «عجائز الوسطية»، الذين يعتقدون أن الحرب على غزة هي مجرد معركة على «الكباب»!

لكن هاكابي وأمثاله ينسفون هذا الوهم نسفًا. فالرجل يعلنها صريحة: إنها معركة لاهوتية، حرب «الجنة ضد النار». وإذا كان هو يراها كذلك، فمن السذاجة أن ندفن رؤوسنا في رمال «الواقعية السياسية».

(7)

خطورة «الإنجيليين الجدد» هاكابي ليس شخصًا هامشيًا؛ بل جزء من تيار ضخم يسيطر على السياسة الأمريكية: الإنجيليون الصهاينة. هؤلاء لا يدعمون إسرائيل فقط لأنها «حليف استراتيجي»، بل لأنهم يؤمنون أن قيام إسرائيل شرط لعودة المسيح المنتظر. أي أن سياستهم الخارجية ليست عقلانية، بل نبوءات آخر الزمان.

ولذلك تراهم يدفعون واشنطن دفعًا إلى مزيد من الحروب: العراق، أفغانستان، سوريا، والآن غزة. وهم لا يرون الدماء التي تسيل، بل يرون «علامات الخلاص» تتحقق.

(8)

 الثقافة سلاح، لا الرصاص وحده ما العمل إذن؟ هل نردّ على هاكابي بصواريخنا فقط؟ لا؛ فهو يريد أن يجرنا إلى حلبة الحرب الدينية المطلقة، حيث تصبح معركته مبررة أمام جمهوره الغربي. الردّ الحقيقي هو أن نفضح هذا الخطاب ونكشف أنه خطاب صليبي بغيض متنكر في ثوب «الدبلوماسية».

الثقافة قادرة على فضح أكاذيب «الخير والشر» التي يبيعها هاكابي.

الثقافة قادرة على كشف التناقض بين «يسوع السلام» و«يسوع الحرب».

الثقافة وحدها تستطيع أن تحول دماء غزة إلى نص ثقافي كوني يحرج الغرب ويجرده من قناعه الأخلاقي.

(9)

أوروبا في مرمى النار

هاكابي حين هاجم الأوروبيين ووصف اعترافهم بدولة فلسطين بأنه «مكافأة مجانية لحماس»، لم يكن يخاطب أوروبا فقط، بل كان يهددها: إما أن تنحازوا لمشروعنا الصليبي، أو تكونوا خارج «أساس الحضارة الغربية». هذا ابتزاز حضاري.

لكنه ابتزاز قصير النفس: فالأوروبيون يدركون أن استمرار دعم إسرائيل بلا قيد ولا شرط سيجعلهم شركاء في جريمة إبادة. ولعل الاعتراف الأوروبي بدولة فلسطين، ولو جاء متأخرًا، سيكون بداية صدع في الجدار الغربي الموحّد خلف الصهيونية.

(10)

مواجهة الوقاحة بالصوت النووي

ما قاله هاكابي ليس مجرد «وقاحة»، بل هو إعلان عقيدة حرب، تعيدنا إلى أزمنة الدم والصلبان، وتكشف أن الصراع في غزة ليس مجرد مواجهة محلية، بل هو المختبر النهائي لمستقبل العالم.

 إما أن ينتصر خطاب هاكابي ـ خطاب الاستعمار واللاهوت الدموي ـ ويُدفن العالم تحت رماد «هيروشيما جديدة»، وإما أن تنتصر غزة، بثقافتها ومقاومتها، لتعلن أن الإنسان ليس شيطانًا يُباد؛ بل شعبًا يقاوم ويعيش.

هاكابي يصرخ: «هذه معركة الجنة ضد النار»، ونحن نرد عليه بصوت نووي أشد: إنها معركة الثقافة ضد البربرية، معركة الحياة ضد الإبادة، معركة الإنسان ضد الكاهن المسعور.

الأكثر قراءة