"دليل التخريب البسيط".. عندما تعبث الأيادي الخبيثة

الطليعة الشحرية

حين تقرأ عن مكتب الاستخبارات الاستراتيجية الأمريكي (OSS)، يُخيَّل إليك أنَّك أمام مُؤسسة وُجدت خصيصًا لإتقان فنون الفوضى. وأنشئ هذا المكتب عام 1944، ليكون نواة لوكالة الاستخبارات المركزية (CIA) لاحقًا، لكنه اشتهر أكثر بما يُسمى "دليل التخريب البسيط" (Simple Sabotage Field Manual).

كان جوهر الفكرة بسيطًا إلى حد السخرية، تقوم على مبدأ الغباء المصطنع، فيمكنك إرباك نظام معادٍ من دون متفجرات أو خطط معقدة، فقط بالقليل من التكاسل المُتعمَّد، الجدال العقيم، أو التأجيل المستمر. باختصار، الغباء المُصطنع أداةٌ تخريبيةٌ بامتياز.

وثيقة صادرة عن هذا المكتب في يناير 1944 تضمنت أساليب متعددة؛ أبرزها: التخريب المادي: كإتلاف الإطارات، تفريغ خزانات الوقود، إشعال الحرائق، أو تعطيل الأنظمة الكهربائية. التخريب الإداري وهو الأخطر والأكثر سخرية. اقترحت الوثيقة مثلًا إحالة جميع القرارات إلى لجان كبيرة وغير فعالة، والغرق في تفاصيل غير مُهمة وتأجيل القرارات الجوهرية، وتنفيذ الأوامر ببطء شديد أو بعد سلسلة لا تنتهي من التساؤلات، وترقية غير الأكفاء، وتهميش الأكفاء.

الوثيقة وصفت هذه الممارسات بأنها كفيلة بإهدار الوقت والموارد، وخلق جو عام من القلق والارتباك داخل أي مؤسسة معادية، ومن المفارقة أن هذه النصائح لا تزال تبدو مألوفة في عالمنا البيروقراطي اليوم.

وإذا تجاوزنا حدود الحرب العالمية الثانية، سنكتشف أن ما ورد في كُتيب OSS لم يبقَ حبيس الأرشيف، على العكس، يمكن أن نجد انعكاساته في واقعنا الإداري والسياسي اليوم؛ حيث تتكرر ذات الممارسات "البسيطة" التي وصفها الدليل، لكن هذه المرة ليست بقصد التخريب؛ بل نتيجة طبيعية لآليات صنع القرار أو ثِقَل البيروقراطية.

وفي السياق الحديث شهدنا في السنوات الأخيرة، صدور قرارات تحمل بصمة "التأجيل" و"التعقيد"، وهي سمات تتقاطع- ولو عرضًا- مع ما أرشد إليه كتيب التخريب البسيط: التأجيل كسياسة!

وحين يُعلن عن قوانين إصلاحية أو أنظمة حماية اجتماعية، ثم تُؤجَّل تطبيقاتها لسنوات قادمة، فإنَّ الأثر المباشر على المجتمع يبقى مُعلّقًا. المواطن ينتظر، والموظف يترقَّب، لكن التنفيذ مؤجل إلى موعد بعيد. هذا النمط يُعيد إلى الأذهان ما أشار إليه OSS: أجل، أعد النظر، لا تنجز، حتى يضيع الزمن وتتبخر النتائج.

وإذا أخذنا التعقيد كأداة ضبط، فإنَّ فرض تراخيص مهنية على أعمال بسيطة، مثل خدمات التوصيل، قد يبدو تنظيمًا مشروعًا، لكنه في نظر المتأثر بروح OSS مثال حي على كيفية تحويل مهمة سهلة إلى متاهة من الإجراءات مهمتها إطالة المسار، وإكثار اللجان، وإغراق التفاصيل هي الوصفة ذاتها التي وصفها الدليل كأداة لإرباك الخصم.

إن التنفيذ البطيء للعدالة الاجتماعية في القرارات الكبرى، مثل فرض ضريبة دخل على الشريحة الأكثر ثراءً، جاءت مؤجلة التنفيذ لسنوات، هنا يظهر التساؤل: هل الهدف إعداد بيئة ناضجة، أم أنَّ التأجيل نفسه أصبح سياسة معتادة؟ ومن منظور "التخريب البسيط"، فإنَّ القانون الذي يُؤجل تطبيقه قد يخسر زخمه الاجتماعي قبل أن يرى النور.

هذا النمط من القرارات، مهما كانت دوافعه، يترك آثارًا مباشرة على المجتمع أهمها تآكل ثقة المواطن الذي يترقب الإصلاح لكنه يواجه سلسلة من المواعيد المؤجلة.  تكثر الإجراءات وتتعقد وتُحوّل أبسط المعاملات إلى مسار طويل من الأوراق والتراخيص والدخول في فوضى إرهاق إداري عقيم. حين تُؤجل القرارات الجوهرية، تتباطأ عجلة التغيير، فيبقى المجتمع في حالة انتظار مُستمر يقود إلى جمود اقتصادي واجتماعي

فما بين OSS في الأربعينيات وقرارات اليوم، يظل المشترك الأكبر هو أن الفوضى قد لا تحتاج إلى انفجارات كبرى، بل إلى بطء مُتعمد، وتعقيد لا داعي له، وتأجيل بلا نهاية.

وإذا كان التخريب البسيط في زمن الحرب أداةً مقصودة لإضعاف العدو، فإن تكراره في زمن السلم- ولو بغير قصد- قد يُضعف ثقة المجتمع بمؤسساته ويؤجل مسيرة الإصلاح.  وإن كانت المجتمعات العربية لا تعمل بنظام OSS ولكنها بلا شك تعمل تلقائيًا بعقلية الـOSS.

كثير من التحديات في الدول لا تعود إلى نقص الأفكار أو الرؤى، بل إلى بطء الجهاز الإداري وتعقيد إجراءاته، ولإصلاح العقلية الإدارية يعني الانتقال من عقلية "الحارس" الذي يمنع ويؤجّل، إلى عقلية "المُمكّن" الذي يُسهل ويبتكر. إن تغيُّر الأنظمة والهياكل دون تغيُّر العقلية الإدارية أو تأهيلها للمواكبة عجلة التطوير ما هو إلا خلق فوضى مؤجلة.

العالم يتحرك بسرعة، والقرارات التي تُؤجَّل أو تُثقل بالتراخيص تفقد فعاليتها، لذلك، تقتضي الحاجة إلى إعادة النظر في بناء إدارة أكثر رشاقة، قادرة على الاستجابة السريعة، مع الحفاظ على الانضباط المؤسسي ورفع المرونة والحوكمة.

ولتحقيق تقليص الروتين يجب استخدام التكنولوجيا كأداة رافعة، فالتحول الرقمي ليس رفاهية، ويجب إعادة صياغة العلاقة بين المواطن والدولة وليس على أساس الشفافية وحدها؛ بل يتطلب سرعة استجابة، ولأن التغيير والإصلاح ليس أحادي الاتجاه فيتوجب إعادة النظر في هندسة الإنسان ذاته.

ولا يكفي إصلاح الإدارة إذا كان المُجتمع لا يتبنى روح المسؤولية والانضباط؛ فثقافة المشاركة مطلوبة لبناء وعي مجتمعي: بأنَّ الإصلاحات لن تؤتي ثمارها ما لم يتعاون المواطن في الالتزام بالقوانين وتطوير سلوكياته اليومية، سواء في العمل أو الاستهلاك أو الإنتاج.

هندسة الإنسان لا تعني التلقين؛ بل تعني إعادة تشكيل القيم الاجتماعية لتنسجم مع المتغيرات: مثل ثقافة الإنتاجية بدل الاتكالية، ثقافة المبادرة بدل انتظار الدولة في كل صغيرة وكبيرة. ولتحقيق معادلة التوازن علينا أن نعيّ أن الخيارين ليسا بديلين، بل وجهين لعملة واحدة، إصلاح العقلية الإدارية يوفر الإطار والبنية والسرعة وإعادة برمجة المجتمع تمنح الشرعية والقبول والاستدامة.

فلو تغيّرت الإدارة وحدها وبقي المجتمع أسيرًا لعادات سلبية، ستفشل الإصلاحات ولو تغيّر المجتمع وبقيت الإدارة متخشبة، ستُجهض الطموحات.

إنَّ أخطر ما يمكن أن تواجهه المجتمعات ليس غياب القوانين ولا ندرة الرؤى؛ بل غياب القدرة على تحويل القرارات إلى واقع ملموس. والفوضى، كما علمنا من OSS، قد تُصنع أحيانًا من تفاصيل صغيرة: تأجيل هنا، تعقيد هناك، وبطء يستهلك الزمن والموارد حتى من دون مؤامرة أو نية تخريبية.

لهذا، فإنَّ المرحلة المقبلة تتطلب ما هو أبعد من مجرد إصلاحات جزئية؛ نحن بحاجة إلى هندسة مزدوجة: إعادة برمجة العقلية الإدارية لتكون أكثر مرونة ورشاقة، وفي الوقت نفسه إعادة تشكيل الوعي المجتمعي ليصبح أكثر استعدادًا للمسؤولية والمبادرة.

الإدارة وحدها لا تصنع نهضة، والمجتمع وحده لا يقود التغيير؛ إنهما جناحان لا بد أن يتحركا معًا، وإلا ظلّت الطموحات معلقة والآمال مؤجلة.

باختصار.. الإصلاح الناجز ليس أن نتجنب "التخريب البسيط"؛ بل أن نُحوِّل كل لحظة تأجيل وكل إجراء معقّد إلى فرصة للتبسيط والتسريع، وأن نجعل من الإدارة والمجتمع- معًا- شركاء في صناعة مستقبل يليق بقفزتنا التطويرية المنشودة.

الأكثر قراءة