أحمد بن محمد العامري
عندما يتحدَّث الناس عن الثروات الوطنية، كثيرًا ما يتبادر إلى الذهن الإنسان بوصفه رأس المال البشري، ثم تتوالى صور الثروات الطبيعية من مياه ونفط وغاز ومعادن وغيرها مما تقوم عليه اقتصادات الدول، غير أن ثمة ثروة تفوق كل ذلك قيمة وخطرًا، وهي "كنز خفي" إن ضاع، ضاع كل ما سواها، وإن أُهمل تعطّلت طاقات الأوطان، وإن استُثمر نهضت الأمم وتقدمت الشعوب. إنها "ثروة الوقت"، هذا الكنز الخفي الذي لا يلمع في العين مثل الذهب، لكنه أغلى منه بأضعاف، لأنه وحده الذي لا يمكن استرجاعه ولا تعويضه.
الوقت ليس مجرد وحدات ساعات تتساقط؛ بل هو مادة الحياة ووعاء الإنجاز، وهو رأس المال الذي يملك كل إنسان حصته منه بالتساوي عند ولادته، ثم يختلف الناس في كيفية استخدامه واستثماره. لذلك قيل إن الفرص لا تنتظر، وإن من لزم الوسادة فارقته السيادة، ومن لازم النوم تقدّم عليه القوم، الزمن المهدور ليس مجرد دقائق ذهبت، بل هو مال وثروة وحياة لم تُستثمر، وضاعت معها فرص كان ينبغي أن تُقتنص.
وإذا كان الفرد يتحمل مسؤولية استثمار وقته، فإن الأوطان أيضًا تتحمل مسؤولية استثمار "الزمن العام"، ذاك الزمن الذي يشكل الإيقاع الحقيقي لحركة التنمية؛ فالأوطان التي يُهدر وقتها، هي الأوطان التي تتأخر عن ركب التطور مهما بلغ غناها من ثروات طبيعية.
الوقت هو أم الثروات، هو الذي يسمح بتحويل رأس المال البشري إلى قوة منتجة، ويسمح للموارد الطبيعية أن تتحول إلى مشاريع وصناعات، فمن دون حسن إدارة الوقت تصبح الثروات الأخرى مجرد أرقام على الورق لا تؤثر في الواقع شيئًا وتكون أكثر كلفة.
والإنسان الذي يفهم قيمة الزمن يفهم في الحقيقة قيمة ذاته؛ فالوقت هو الإطار الذي تتحرك فيه الطاقات وهو الميدان الذي تُختبر فيه الإرادة، وهو مادة البناء لكل مشروع شخصي أو مجتمعي، ومن يتعامل مع الوقت باعتباره عدوًا ثقيل الظل يفقد القدرة على إدراك فرصه، بينما من يتعامل معه بوصفه حليفًا ثمينًا، يصبح قادرًا على توظيفه ليصنع لنفسه ولوطنه مكانًا تحت الشمس.
ولعل أخطر ما يواجه ثروة الوقت هو العادات التي تبدد الزمن بلا مقابل، العشوائية في التخطيط، التسويف، الانشغال بالثانوي على حساب الجوهري، ضعف الانضباط في المؤسسات، وإهدار الساعات في ما لا يقدم ولا يؤخر، هذه ليست مجرد أخطاء فردية أو سلوكيات يومية عابرة، بل هي نزيف مستمر لثروة من عمر الوطن يجب الحفاظ عليها، فالدقيقة التي تُهدر قد تؤخر معاملة، وقد تؤخر مشروعًا، وقد تفرغ مبادرة من محتواها، وقد تؤخر مسارًا تنمويًا بأكمله، حتى لو بدا الأمر بسيطًا في لحظته.
وفي المقابل، عندما تُدار ثروة الوقت بطريقة رشيدة، يصبح كل شيء قابلًا للتحسن، تتسارع وتيرة الإنجاز، ترتفع جودة العمل، يتضاعف العطاء، وتُختصر المسافات بين الحلم والواقع، والأمم التي حققت قفزات حضارية في فترة قصيرة هي الأمم التي فهمت قيمة الدقيقة قبل الساعة واستثمرت وقتها كما تستثمر الذهب، وربما أكثر.
إن ثروة الوقت تتطلب وعيًا مجتمعيًا عامًا يبدأ من الفرد وينتهي بالمؤسسات والدولة، يبدأ من طريقة الإنسان في إدارة يومه مرورًا بطريقة المؤسسة في إدارة ساعات العمل، ووصولًا إلى طريقة الوطن في إدارة مرحلة كاملة من تاريخه، الوقت ليس ملكًا للفرد وحده؛ بل هو ملك مشترك يتشابك فيه الخاص والعام، ولهذا فإنَّ إدارة الوقت مسؤولية مشتركة لا تنجح إلا إذا تكاملت الأدوار.
وحتى يعي الإنسان هذه القيمة يحتاج أن يتوقف قليلًا أمام حقيقة بسيطة: "لا شيء يملك القدرة على تعويض خسارة الزمن" المال قد يعود، والصحة قد تُستعاد، والمكانة قد تُرمم، لكن الوقت إذا مضى انقضى، لذلك جاءت النصوص الشرعية تذكّر بقيمته، وجعلت "العمر" رأس مال الإنسان الذي يُسأل عنه، كما أنَّ تجارب الأمم كانت شاهدة على أن من يُحسن استثمار الزمن يحسن صناعة المُستقبل.
إن بناء ثقافة احترام الوقت يبدأ من التربية، ويتعزز بالتعليم، ويترسخ بالقدوة، ويثمر في السياسات العامة التي تجعل الوقت معيارًا في تقييم الأداء، فحين يصبح احترام الوقت قيمة مشتركة، يتحول المجتمع بأكمله إلى خلية إنتاجية لا تهدر طاقة ولا فرصة ولا ثانية دون غاية.
وفي الختام، فإنَّ "ثروة الوقت" ليست مجرد مفهوم تنظيري؛ بل هي قضية تنموية مصيرية، من يحفظ زمنه يحفظ مستقبله، ومن يحسن إدارة وقته يحسن إدارة حياته، ومن تعلّم احترام الدقيقة صار قادرًا على كتابة ساعته وتاريخه، والوقت في نهاية المطاف، هو "الثروة الخفية" التي لا تُشترى، ولا تُخزن، ولا تُعوض؛ بل تُستثمر أو تُهدر، والأوطان التي تدرك هذه الحقيقة وتعمل بها، هي الأوطان التي تمضي في طريق التنمية بخطى ثابتة، لأنها فهمت أن الزمن ليس مجرد ثروة، بل هو أساس كل الثروات، فالوقت "كالسيل" إن لم تقطعه قطعك.
