بانتظار القبس

 

 

نور بنت محمد الشحرية

نعيش على ضفاف جرحٍ قديم، يتوارثه الأبناء كما تتوارث الأجيال ملامحها، جرحٌ يتسع كلما حاولنا أن نتناساه، كأننا لم نُخلق إلا لنحمل هذا الثقل الموجع. وبينما يعلو الرماد فوق أرواحنا، نُبقي أعيننا شاخصة نحو الأفق، بانتظار قبس يبدد هذا الظلام ويوقظ فينا معنى الكرامة من جديد. لسنا مثقلين لأن حياتنا كلها أحزان، بل لأننا خُلقنا في كبد، وكل جرحٍ من جراح الأمة يسكننا بقدر ما ينزف منهم.

أخبار غزة صارت مرآة وجعنا؛ قتل بلا رحمة، تهجير لا ينتهي، بيوت تُحرق، أطفال تُجَوَّع، شيوخ يُذَلون. كأن خطط الطغيان كُتبت بعناية لإطفاء روح الكرامة فيهم. ومع ذلك، كلما اشتد الحصار وازداد الطغيان قسوة، يخرج من تحت الركام وجهٌ صامد، وصوتٌ يقول إن الروح أقوى من الدمار. هناك، وسط الرماد، يولد القبس، بينما نحن هنا نُثقل أكثر بصمتنا وعجزنا.

العلاقة بيننا وبينهم كخيط مشدود؛ كلما ازدادوا رسوخًا وثباتًا، ازددنا نحن انحناءً في بئر العجز. نبحث عن مبررات صمتنا، نُعلّق أملًا على فتات لا يقيم أمة. لكن الجذع الجائع لا يصمد طويلًا، فالنهايات معلّقة بشهادة جديدة، ودمٍ جديد، ورأسٍ مطأطئ لم يرفع منذ زمن. وربما تدور الدائرة في أرض أخرى، لكن اليقين أن الهزيمة تظل قرينة من يغضّ الطرف عن جرحه، ويترك الكرامة تموت جوعًا في داخله.

ومع ذلك، وسط هذا الظلام، لا ينطفئ كل شيء. ثمة قبس صغير يولد مع كل صمود، قبس يذكّرنا أن الروح لم تمت، وأن الجذع لا يزال قادرًا على أن يزهر إذا ما اجتمعنا على الحق، ورفضنا عبودية الخذلان. وحين نلتقي جميعًا على ذاك القبس، قد نرى الرأس مرفوعًا، والكرامة عائدة، والأمة وقد استعادت أنفاسها التي كادت تختنق تحت وطأة القهر والدم.

لقد طال الانتظار، لكن القبس ليس وهمًا. هو حقيقة تنبض في قلوبهم، وتستدعي قلوبنا من سباتها. إنهم يزرعون فينا الأمل رغم أنهم المحاصرون، ويوقظون فينا الحياة رغم أنهم تحت الركام. وإن كان للقبس أن يشرق يومًا، فلن يكون إلا حين ندرك أن صمودهم هو المرآة التي تعكس ضعفنا، وأنهم هم النور الذي ينادينا من بين الركام، لعلنا ننهض قبل أن يبتلعنا الظلام.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة