مسعود أحمد بيت سعيد
مرت أربعون يومًا تقريبًا على رحيل الموسيقار والمسرحي والكاتب اللبناني زياد الرحباني، الذي شكَّل في محيطه العربي ظاهرة فنية نادرة، وقد تميَّز الرحباني بقدرته على صياغة محتوى فني وفكري نقدي يصعب تكراره؛ إذ لم يكن مجرد فنان أو ملحن؛ بل كان مشروع مقاومة فكرية متكاملة، يرى في الموسيقى والكلمة وسيلة للتعبير عن رفضه للاستبداد والظلم والقهر الطبقي.
وقف زياد الرحباني دائمًا في وجه التسطيح الفني والإغراءات المادية، رافضًا الانجرار خلف البريق الزائف والشهرة الفارغة. وظل مُنحازًا إلى الفقراء والمُهمَّشين، يرفع صوتهم، ويجعل من معاناتهم مادة فنية راقية يلتقطها بصدق وشفافية، ليُعيد صياغتها وتوظيفها في أعماله الأدبية بروح ثورية واعية ملتزمة بقضية الحرية والعدالة الاجتماعية. بقي زياد الرحباني حتى آخر لحظة من حياته مُثقفًا مُشاكِسًا، يُقدِّم خطابًا ساخرًا عميق الدلالة، كأداة مقاومة لاذعة تفضح الزيف السياسي والاجتماعي. ولذا لم يكن غريبًا أن تتحول إطلالاته الحوارية وكتاباته الصحفية إلى مصدر بهجة وارتياح لشرائح واسعة من الجماهير العربية، تمنحهم لحظات من الصفاء الذهني والتوازن النفسي وسط عالم مُضطرب يموج بالتناقضات.
غير أن ما يُميِّز زياد الرحباني -إلى جانب موهبته وعبقريته الفنية- هو ذلك الجانب الإنساني العميق؛ فقد يكون الإنسان فنانًا أو مُفكِّرًا أو زعيمًا سياسيًا، لكن قيمته الحقيقية لا تكتمل إلّا إذا كان إنسانًا بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ ودلالات. وفي هذا السياق، أستعيدُ حكاية مؤثرة روتها لي سيدة لبنانية مُسِنَّة، قبل نحو عشرين عامًا. ففي إحدى الليالي، ومن شُرفة إحدى البنايات الكبيرة في حي الفاكهاني ببيروت؛ حيث كانت أنوار المدينة تنعكس على مخيمات البؤس والحرمان والثورة، جَرَّنا الحديث إلى ذكريات الحرب والمعاناة التي عاشها الشعبان اللبناني والفلسطيني أثناء الاجتياح الإسرائيلي لبيروت سنة 1982. تقول السيدة: "كان القصف لا يتوقف ليلًا ونهارًا، وبحسب وكالات الأنباء العالمية فإن ما سقط على بيروت من قنابل في يوم واحد يعادل قنبلة هيروشيما النووية. وفي إحدى الليالي اشتد القصف، وانقطعت الكهرباء والماء والغذاء لأيام طويلة. وكانت ابنتاي الصغيرتان تتضوران عطشًا وجوعًا، بينما التجار رفعوا الأسعار بشكل جنوني. عندها تدخلت الحركة الوطنية اللبنانية وفصائل منظمة التحرير الفلسطينية، فسيطرت على المخابز والمخازن الغذائية، ونظمت عملية ضبط الأسعار والتوزيع. وما إن شاع الخبر حتى تدفق الناس إلى المخابز. وفي ليلة لا أنساها، بقيتُ ساهرةً حتى الفجر لأحجز دوري باكرًا، لكنني فوجئت بعشرات الآلاف قد سبقوني. رفعتُ رأسي لأنظر إلى من يقف عند باب المخبز، فإذا به زياد الرحباني. كنت أعرفه كفنانٍ، ولوَّحتُ له بيدي مرارًا دون أن يراني، فصرختُ بأعلى صوتي: "زياد، يا ابني، بناتي يمُتن من الجوع، وليس لدي مال". التفتَ إلى الصوت يمينًا ويسارًا، وعيناي تلاحق نظراته، وعندما لمحني من بعيد وسط الجموع أشار إليَّ بيده أن أتقدَّم، لكن الزحام كان خانقًا. ومع ذلك، شقَّ زياد طريقه وسط الأمواج البشرية، ومدَّ لي بيده كيسًا من الخبز. لقد أنقذ بناتي من الموت. ومنذ ذلك اليوم ازداد حُبي له، ليس فقط كفنان؛ بل كإنسان".
كانت السيدة تستعيد تلك الحادثة وكأنها وقعت بالأمس، بينما تُشير بيدها نحو مُخيَّم صبرا وشاتيلا، لتصرف نظري عن الدموع المُنهمرة من عينيها.
هذه الواقعة الأليمة، بقدر ما تكشف بشاعة الصهيونية وإجرامها، تُلخِّص في الوقت نفسه الجانب الإنساني من شخصية زياد الرحباني، الذي قدَّم درسًا بليغًا مفاده أن الإنسان إذا لم يكن أخلاقيًا فلن يكون وطنيًا.
برحيل زياد الرحباني، خسرت الأمة العربية أحد أبرز الأصوات التي جمعت بين الفن الرفيع والموقف الوطني والأخلاقي.