بدر بن خميس الظفري
@waladjameel
ما إن يدخل شهر ربيع الأول من كل عام هجري حتى يتجدد الجدل حول مشروعية الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف، خاصة من قبل الرافضين لإحياء هذه الذكرى الطيبة. ويحتج الرافضون الذين يُنكرون الاحتفال بالمولد النبوي، بأن الاحتفال "بدعة مُحدَثة" لا أصل لها في الدين. وهم يتكئون على عدد من الشُبهات والحُجج لتعزيز رأيهم، سنحاول تفنيدها في هذا المقال.
أبرز الحجج التي يسوقها الرافضون هي أنه لو كان في الاحتفال خيرٌ لسبقنا إليه الصحابة رضوان الله عليهم؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم أَحبُّ الخلق إلى أصحابه، ومع ذلك لم يُقِيموا له احتفال مولد، فعدم فعلهم دليل على عدم المشروعية. ويستدلون أيضًا بحديث: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"، وبحديث "كل بدعة ضلالة…".
ويجاب على هذه الشبهة أن مجرد ترك النبي لأمر ما لا يدل على تحريمه؛ فالترك قد يكون لعدم وجود المقتضي حينها أو خشية فرضه على الأمة، وليس منعًا مطلقًا. وقد تقرر في أصول الفقه أن الترك النبوي لا يفيد الحُكم إلا بقرينة، وإلا فالأصل الإباحة.
أما الأحاديث التي تذم البدع تُحمل على البدع السيئة في الدين، لا على كل جديد. وقد أوضح العلماء ذلك بجمعهم بين الأحاديث؛ فحديث: "كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة" عامٌ يُخَصَّص بحديث مسلم الصحيح: "من سنَّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها… ومن سَنَّ سُنة سيئة فعليه وزرها…". فهذا يدل على أن هناك "بدعة حسنة" و"بدعة سيئة" بنص كلامه صلى الله عليه وسلم. وقد نقل البيهقي في كتاب "مناقب الشافعي" أن الإمام الشافعي قال: "المُحدِثات من الأمور ضربان: أحدهما ما أُحدث مما يخالِف كتابًا أو سنةً أو أثرًا أو إجماعًا فهذه بدعة ضلالة، والثانية ما أحدث من الخير لا يخالف شيئًا من ذلك فهذه محدثة غير مذمومة".
إذن، ليس كل جديد في الدين حرامًا بإطلاق، بدليل أن الخلفاء الراشدين أحدثوا أشياءً على غير مثال سابق، كجمع المصحف وأذان الجمعة الثاني، وصلاة التراويح جماعةً التي قال عنها عمر: "نعمَت البدعة هذه"؛ فهي بدعة لغةً ولكنها سنة شرعًا لاتفاقها مع مقاصد الشريعة. فإذا جوّز السلف تلك الأحداث للأمة، كان الاحتفال بالمولد، وهو ذكرٌ وشكر، في حكمها؛ لأنه لا يخالف نصًا ولا أصلًا، بل يندرج تحت عمومات الاستحباب كتعظيم النبي وذكر الله وشكر نعمه.
ويجادل الرافضون بأن الاحتفال بالمولد على هيئة معينة كل عام يجعله أشبه بالعيد الديني، والعيد من العبادة التوقيفية التي لم تَرِد، فلا يجوز إحداث عيد ثالث في الإسلام بعد عيديْ الفطر والأضحى.
والرد أن تسمية المولد "عيدًا" ليست مقصودة بإطلاق التشريع؛ بل هو احتفال طوعي اختياري لا يُفرض على الناس ولا يشتمل على شعائر جديدة. ففرقٌ كبير بين عيد شرعي تُقام فيه صلوات مخصوصة بصفة محددة، وبين احتفال شعبي أو مناسبة دينية عامة تجمع الناس على خير دون إلزام بشعائر جديدة. والمسلمون لا يعدّون المولد عيدًا واجبًا كالفطر والأضحى، وإنما هو ذكرى سنوية على سبيل العادة الحسنة، كتخصيص يوم للهجرة النبوية أو غزوة بدر بالتذكير والاحتفاء. وأيضًا فإن النبي صلى الله عليه وسلم نفسه سمّى يوم الجمعة عيدًا للمسلمين، وسمّى أيام التشريق أيام عيد؛ فتسمية العيد في الدين ليست محصورة في اثنين فقط، وإن كان العيدان الرئيسيان معروفين. وعليه، فليس في احتفالات المولد أكثر من كونها وسيلة مباحة لإظهار المحبة والفرح كسائر الوسائل، وليست عبادة مستقلة جديدة حتى يقال إنها ابتداع في أصل العبادة.
ويقول المعترضون إن في الاحتفال مشابهة للنصارى في أعياد الميلاد، وتقليدًا لما يفعله النصارى في عيد ميلاد المسيح، وقد نُهينا عن التشبُّه بهم.
والرد على ذلك أن التشبُّه المذموم هو تقليد ما يختص بعقائدهم أو شعائرهم الدينية. أما الفرح بمولد النبي وإظهار السرور به؛ فهو أمر مشترك في أصل المعنى بين الأمم المحبة لأنبيائها، ونحن أولى بكل فضيلة. والقياس هنا مع الفارق، أن النصارى ابتدعوا عقائد باطلة حول ميلاد المسيح وربطوها بطقوس دينية منحرفة. أما المسلمون فيحتفلون ضمن حدود الشرع بذكر شمائل نبيهم وعبادة الله، فلا وجه للمقارنة. ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم نفسه أقرَّ فكرة تخصيص يوم لشكر نعمة نجاة موسى كما في حديث يوم عاشوراء، ولم يعده مشابهة مذمومة لليهود؛ بل قال: "نحن أحق وأولى بموسى منكم". فكذلك نقول: نحن أحق بنبينا أن نفرح بيومه ونحيي ذكره من غيرنا؛ فالاحتفال بالمولد علامةُ حبٍّ ووفاء، وليس تقليدًا أعمى؛ والنيات في ذلك بيننا وبينهم مختلفة كل الاختلاف.
ويقول المعارضون إن المولد يجُر إلى منكرات ومحاذير شرعية، وإن ما يجري في بعض احتفالات المولد من غناء ورقص مختلط، أو غلو في مدائح الرسول إلى حد الشرك، كما قد يقع عند بعض الجهلة، هو حرام قطعي، فيلزم سد الذريعة بمنع المولد كليًّا.
ونحن نوافق أن أي منكر يصاحب أي احتفال، مُحرَّمٌ بذاته يجب منعه؛ سواء وقع في المولد أو في الأعراس أو غيرهما. لكن وجود انحرافات عند بعض العوام لا يُلغي أصل المشروعية؛ بل العلاج تصحيح الممارسة لا إلغاء المشروع كاملًا. وقد قرر أئمة العلم هذه القاعدة بوضوح، فقد قال ابن حجر العسقلاني إن المولد "اشتمَل على محاسن وضدها، فمن تحرّى المحاسن وتجنّب ضدها كان بدعة حسنة وإلا فلا". فنحن نمنع الرقص المحرَّم والاختلاط والخرافات، وننكر بشدة على من يتوسل بالرسول توسلًا شركيًا أو يرفعه فوق منزلته البشرية لأن الغلو في مدح النبي مذموم شرعًا بنص الحديث: "لا تُطروني كما أطرت النصارى ابن مريم…"، لكن مع ذلك لا نمنع أصل الاجتماع المشروع على ذكر الله وشكر مولده صلى الله عليه وسلم.
إنَّ مجالس المولد مجالس علم وذكر وتوعية دينية، وكثيرًا ما كانت سببًا لهداية الناس وتعليمهم أمور دينهم من خلال سرد السيرة النبوية العطرة، وهي لا تختلف في مضمونها عن المؤتمرات والندوات الدينية التي تعقد في عصرنا ولم تكن معروفة من قبل؛ فهي أنشطة اجتماعية ذات هدف ديني، وبالتالي لا ينطبق عليها تعريف البدعة المذمومة.