مدرين المكتومية
لا يخلو مُجتمع في العالم من الجريمة والسلوكيات الخاطئة؛ إذ إنَّ "المدينة الفاضلة" لا مكان لها سوى في كُتب أفلاطون ومن سار على هديه، لكن في المُقابل، هناك مجتمعات تتمتع بمعدلات جريمة منخفضة للغاية، وسلوكيات سلبية لا تكاد تُذكر، ومنها مجتمعنا العُماني، الذي ظلّ حتى سنوات قليلة مضت، لا يُواجه مثل هذه التحديات بصورة كبيرة.
البعض يعزو ما نراه اليوم من سلوكيات خاطئة يمارسها بعض الشباب، أو جرائم لم يكن العُماني يومًا يرتكبها، إلى الظروف الاقتصادية التي بات يُعاني منها كثير من أفراد المجتمع، نتيجة الضغوط التي يتعرضون لها، إما بسبب عدم حصولهم على فرص عمل، أو أولئك الذين يُسرَّحون من أعمالهم، بينما فريق آخر يرى أنَّ المؤثرات الخارجية عبر وسائل التواصل الاجتماعي والانفتاح على ثقافات أخرى، أثرت سلبياً على السلوكيات، فضلًا عن سعي البعض لتحقيق مكاسب سريعة مهما كانت الوسيلة.
الحقيقة أنَّ بين هاتين الرؤيتين، يكمن الخلل، فما نواجهه اليوم في مجتمعنا، هو خليط من مجموعة ظروف وعوامل تسببت في ما آلت إليه الأوضاع، فغلاء المعيشة وعدم قدرة البعض على مجاراة ارتفاع الأسعار وتراجع الرواتب والقوة الشرائية للعملة في ظل التضخم، إلى جانب ما يراه الشباب يوميًا عبر وسائل التواصل الاجتماعي، كل ذلك عوامل أدّت إلى أن يفقد البعض قدرته على التمسُّك بالقيم والعادات العُمانية الأصيلة، ونجد من يقع في الخطيئة، أو السرقة أو عقوق الوالدين، وآخرين يميلون إلى السوداوية ورؤية كل شيء سلبي من حولهم، ما يُثير الإحباط والسخط بين المحيطين بهم.
المشاكل الاجتماعية المتزايدة والمرتفعة ما هي إلا نتاج التحديات الاقتصادية التي يواجهها البعض، ولا شك أن ارتفاع معدلات الجريمة دليل على ما يعتري مجتمعنا من ظروف اقتصادية، وأهمها: ارتفاع عدد الباحثين عن عمل، وغياب فرص عمل جديدة، وضعف الرواتب وانخفاض الحد الأدنى للأجور، وهي مؤشرات سلبية يتعين مواجهتها فورًا عبر حلول ناجعة ومفيدة. ومن المؤسف أننا إلى الآن لم نجد أي مبادرة من أي جهة معنية بهذا الملف، بل حالة من الصمت والسكون الغريب غير المبرر، خاصة وأن كل ذلك يتسبب في استفحال بعض المشاكل وتراكم بعضها فوق بعض.
الجميع يدرك أن زيادة أعداد الباحثين عن عمل يرافقها ارتفاع في نسب الجرائم كالسرقة والتلاعبات المالية على سبيل المثال، فقد كانت هناك زيادة ملحوظة في نسب الجرائم وفقًا لما أعلنه الادعاء العام مؤخرًا؛ حيث ارتفعت جرائم الاحتيال بنسبة 67%، وهي أعلى نسبة زيادة مسجلة، كما سجلت جرائم الشيكات ارتفاعًا بنسبة 15%، كما زادت جرائم السرقة بنسبة 32%، تليها جرائم النصب والاحتيال المالي التي سجلت زيادة بنسبة 30%، فضلًا عن أن إحصائيات جرائم الأموال العامة وغسل الأموال التي تشير إلى تسجيل 279 قضية في عام 2024. وهذا الارتفاع في القضايا يجر خلفه قضايا أخرى، منها الطلاق على سبيل المثال والتفكك الأسري بسبب عدم الاستقرار المادي والاجتماعي، ويؤكد ذلك أنَّ عدد حالات الطلاق بلغ 4122 خلال عام 2024 وفقًا لبيانات المجلس الأعلى للقضاء.
لن تجد شابًا اليوم إلّا يشكو من غلاء المهور، وصعوبة الزواج، نظرًا لعدم قدرته على الوفاء بالالتزامات المطلوبة منه، وفي المقدمة توفير مسكن، في ظل رفض البنوك منح كثير من الشباب العاملين في القطاع الخاص قروضًا سكنية نتيجة لانخفاض رواتبهم، فضلًا عن زيادة أسعار إيجارات الشقق السكنية، فكيف يستطيع شاب يحصل على أقل من 325 ريالًا أن يوفر إيجار شقة سكنية لن تقل عن 200 ريال، دون احتساب المصاريف الشهرية ومصاريف التنقل والعلاج وغيرها، من المصاريف الأساسية التي تواجهها كل أسرة.
هذا الوضع غير المسبوق، نتج عنه تأخر سن الزواج، وتزايد المشاكل الاجتماعية بين الزوجين نتيجة للتحديات المالية التي يواجهونها، حتى إن بعض الشباب والفتيات يتحدثون عن عزوفهم عن الزواج، لأنهم غير مستعدين لخوض تجارب محكوم عليها بالفشل، كما يعتقدون. وإذا ما استمر هذا الوضع، فإنَّ معدلات الإنجاب ستكون في خطر داهم، وستتعرض التركيبة الديمغرافية في بلادنا لتحديات غير مسبوقة، في وقتٍ ننشد فيه- وفق أهداف "عُمان 2040"- زيادة عدد السكان وخاصة من المواطنين، فكيف سنُحقق هذا الهدف وعوامل تحقيقه منعدمة؟!!
لم يعد خافيًا على أي مواطن ما يشهده المجتمع من زيادة في عدد مُدمني المخدرات، وارتفاع غير مسبوق في معدلات التهريب، والتي تبذل الجهات المعنية فيها جهودًا هائلة من أجل إحباطها وحماية أبناء المجتمع من ويلات هذه السموم. لكن الحل الأمني لن يكون كافيًا، لا بُد من حلول اقتصادية تنتشل الشباب من براثن هذه المخدرات، لأنَّ الشاب إذا ما وجد فرصة عمل وخطة طموحة لبناء أسرته والعيش في مسكن كريم، لن يخوض طريق الضلال، وسيحافظ على ما حصل عليه من خير.
وأخيرًا.. إنَّ التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي نواجهها في مجتمعنا، تتطلب من جميع الجهات والمؤسسات وكل فرد في هذا المجتمع، أن يبذلوا قصارى جهدهم من أجل تفادي الدخول في نفق مظلم سبقتنا إليه مجتمعات أخرى، تعض اليوم أصابع الندم أنها لم تستأصل شأفته منذ البداية.. لا شك لدي أن الجميع يسعى من أجل تحسين الأوضاع، لكن العمل التقليدي لم يعد مُجديًا، وأصبح الوضع يتطلب عملًا نوعيًا وجُهدًا مُكثفًا من أجل احتواء الأزمات وحماية المجتمع من المخاطر التي تتهدده.