دراسة "هارفارد" الطويلة الأمد عن النمو البشري (1)

 

 

 

أ.د. حيدر بن أحمد اللواتي

البحث عن السعادة والرضا في الحياة، من الأمور التي سعى الإنسان لها منذ القِدم، وقدَّمت الفلسفات والأديان المختلفة وجهات نظرها حول سِر سعادة الإنسان وشعوره بالرضا، ومع التوجه نحو المعرفة العلمية سعت الدراسات العلمية سعيًا حثيثًا للكشف عن سر سعادة الإنسان وشعوره بالرضا، لكن المنهج العلمي يختلف تمامًا عن منهجيْ الفلسفة والأديان؛ فالعلم قائم على التجربة والملاحظة، بينما تقوم الفلسفات المختلفة على التأملات والتجارب الشخصية، وتقوم الأديان على مصادر غيبية عُليا في الأعم الأغلب.

ومن هنا انطلقت فكرة أبحاث الحياة، التي تركز على فهم رحلة الإنسان كاملة، من لحظة الولادة حتى الشيخوخة، وتسعى هذه الأبحاث لمعرفة كيف ينمو الإنسان ويتغير جسديًا وعقليًا وعاطفيًا واجتماعيًا مع مرور الزمن، وكيف يؤثر كل هذا على شعوره بالسعادة والرضا.

واحدة من أشهر هذه الدراسات هي دراسة جامعة هارفارد حول دورة الحياة، التي بدأت عام 1938، والمعروفة أيضًا بـ"دراسة هارفارد الطويلة الأمد عن النمو البشري"، وقد بدأت مع 724 شابًا أمريكيًا، تراوحت خلفياتهم بين طلاب جامعة هارفارد وأفراد من أحياء فقيرة في بوسطن بالولايات المتحدة؛ بهدف تتبُّع تغيّر صحتهم النفسية والجسدية، وظروفهم الاجتماعية والاقتصادية، وتأثير كل ذلك على جودة حياتهم.

صورة داخل المقال على الموقع.jpg
 

كانت العينة في البداية تقتصر على الذكور؛ لأن التركيز آنذاك كان على فهم صحة الرجال الشباب في فترة ما بعد "الكساد الكبير" وقبل الحرب العالمية الثانية، وتم اختيار المشاركين بعناية ليشملوا طيفًا واسعًا من الطبقات الاجتماعية، من النخبة الأكاديمية إلى الطبقات العاملة.

ومع مرور السنوات، توسعت الدراسة لتشمل زوجات المشاركين وأبناءهم؛ مما منح الباحثين نافذة أعمق وأكثر تعقيدًا على دورة الحياة عبر أجيال متعاقبة.

خلال هذه الرحلة البحثية الطويلة، جمع الباحثون بيانات غنية شملت مقابلات مُنتظَمة، وفحوصات طبية، واختبارات نفسية، ومسحًا للحالة الاجتماعية والاقتصادية، ولم يغفلوا حتى الأحداث الكبرى في حياة المشاركين مثل الزواج، والطلاق، والوظائف، والأمراض، إلى جانب العادات اليومية كالتدخين والتمارين الرياضية.

تميَّزت الدراسة بمنهجيتها الطويلة الأمد التي تتابع التغيرات الفردية عبر الزمن؛ فهي ما زالت مستمرة؛ مما يمنحها قدرة فريدة على كشف كيف تؤثر ظروف الحياة المختلفة في مسار الإنسان، وبذلك فهي أكثر موضوعية وأكثر مصداقية من الدراسات التي يتم الكشف عنها بين حين وآخر والتي لا تمتد إلّا لبضع سنوات، أو تلك التي تصدر سنويًا والتي تشير إلى الدول الأكثر سعادة.

لكن وعلى الرغم من القيمة الكبيرة لهذه الدراسة ونتائجها العميقة؛ حيث إنها صدرت من أرقى الجامعات العالمية وتُعد من أكثر الدراسات واقعية، وبذل فيها الباحثون -وما زالوا- عقودًا من الزمن، إلّا أنها لم تَحظ بالاهتمام الذي تستحقه، حتى إن الكثيرين منَّا لم يسمعوا بها قبل أن يتحدث عنها الباحث الرئيسي في إحدى محاضرات TED المشهورة؛ حيث أشار فيها إلى أهم النتائج التي توصّل إليها البحث.

لا نعرف سبب التغاضي وإهمال هذه الدراسة بهذا الشكل الملحوظ، إلّا أن الباحث الرئيسي السابق جورج إي فايلانت George E. Vaillant يقول في كتابه "نجاحات الخبرة.. رجال الدراسة الممولة من هارفارد Triumphs of Experience: The Men of the Harvard Grant Study ما معناه: "من الصعب إقناع عقول وول ستريت في القرن الواحد والعشرين بأن الحب هو كل ما تحتاج إليه"؛ فمثل هذه الحقيقة لا تبيع منتجاتهم، ولا تُضخِّم حساباتهم المصرفية.

هذا ما جعلني أقضي فترة الصيف الماضية، أُطالع في كُتب الباحثين الذين نشروا نتائجهم في عدد من كتبهم، وقد وجدتُ أن النتائج التي توصلوا إليها مُهمة، وخاصةً في هذا العصر الذي تطغى فيه المادة، وتُعد مؤشرًا حاسمًا لدى البعض في تقييم جودة الحياة، إلّا أن الإحصائيات التي ذُكرت في هذه الدراسة تشير إلى عكس ذلك تمامًا، وأن المادة لم تكن عاملًا حاسمًا قط! كما إن الدراسة أشارت إلى أن التعليم وجودته أو تحقيق الأهداف الشخصية أو الشهرة، كل هذه الأمور لم تكن من العوامل الحاسمة في شعور الإنسان بالرضا والسعادة!

وجرى وضع عدد من المعايير الواضحة في تحديد جودة الحياة؛ مثل: الاستمتاع بالعمل، واللعب، والإقبال على الحياة، ومستوى الشعور بالضغوط النفسية، والعلاقات الزوجية الجيدة، والعلاقة مع الأبناء، إضافة إلى العلاقات الاجتماعية القوية التي يستطيع أن يلجأ لها الرجل عند الحاجة، والتمتع بصحة جسدية وعقلية جيدة طوال سنوات حياته، بجانب وجود دخل مادي ووضع اقتصادي جيد لا يحتاج فيه إلى الآخرين، مع التركيز على المرحلة العمرية ما بين عمر الستين والخامسة والثمانين.

وكان هدف الدراسة هو معرفة العوامل المختلفة كالعوامل الوراثية، والوضع الاجتماعي والدخل المادي، ومستوى تعليم الأبوين ومستوى تعليم الأبناء، وأثر كل هذه العوامل على جودة الحياة في تلك المرحلة من العمر.

تجدر الإشارة إلى أن هناك عددًا من الدراسات المُشابهة لهذه الدراسة وإنْ كانت لأغراض مختلفة؛ فهناك دراسة أُجريت في لندن وأخرى في نيوزيلندا، لكن مما يؤسف له أننا في عالمنا العربي نفتقر إلى دراسات شبيهة، على الرغم من عدم الحاجة إلى تقنيات معقدة للقيام بها، وعلى الرغم من أهميتها، ومثل هذه الدراسة لها أثر بالغ في تصحيح المسار ومعرفة تأثير التغيرات المتسارعة التي تعصف بعالمنا اليوم.

في مقالنا القادم سنتحدث عن بعض الإحصائيات غير المتوقعة والتي أُشير إليها في هذه الدراسة.

فللحديث بقية...

الأكثر قراءة