د. مجدي العفيفي
(1)
حين يسقط القلم في مستنقع الخنوع، يخرج علينا من يُنظّر للموت وكأنه حلّ.. من يُسمّي التطبيع خيارًا استراتيجيًا، ويضع ورقة زيتون ذابلة فوق مجزرة، كأنها ستخفي رائحة الدم.
كل حين يتبجح علانية من بيننا، من يسوّق للكيان الصهيوني الإرهابي المسمى بـ«إسرائيل»، وكأنها جارة طيبة لا تفهم سوى الحوار، ويهاجم المقاوم لأنه لم يجلب وردًا بدلًا من الصواريخ.. مثل الأطروحة التي تقيأها مُطبِّع مُحترف مؤخرًا، في وعاء مقالي يتكرر كثيرًا وبنفس العبارات تقريبًا في مقالات القطيع إياهم، ملوثًا ومحشوًا بالتواء المعاني.
تقول- في خرافتك الصحفية- إن مناهضي التطبيع فشلوا؟ (!!) وأقول هل نعتبر من انتصر بالرُكوع قدوة؟ من يقيس النصر بالحدود المنقوصة، ولا يُبالي بالمقاومة التي رفضت البيع، لا يفقه معنى الكرامة ولا الشرف ولا التاريخ.
أنت لا تدرك أن ما حُرر بالبندقية في أكتوبر 1973، لو وُكِّل إلى الورق وحده، لبقي محتلًا إلى الأبد.. إن أرض سيناء لم تعد إلا بعد دَمٍ، وأن الطيران فوق تل أبيب لم يكن مقالًا في مطبوعة؛ بل اختراقًا فعليًا من نسور الجيش الذين لا يعرفون التزلُّف.
(2)
المُهروِلون قطعان كتبة أشباه الحقائق، لا يرون أن الكيان الصهيوني منذ اغتُصبت الأرض حتى لحظتنا هذه، لم تُشهر سوى سكينها. لا يعرفون- أو يتجاهلون- أن العدو الصهيوني لا يكتفي بتوقيع، ولا يكتفي بحدود؛ بل يريد الذاكرة أيضًا.
يسألوننا بلا حياء أو خجل: لماذا لا تؤمنون بالسلام؟
ونقول لهم بكل يقين: جرّبنا. جُرّبت مصر منذ كامب ديفيد، والأردن منذ وادي عربة، ومنظمة التحرير منذ أوسلو..
فماذا جنت هذه الشعوب؟
هل عاد اللاجئ؟
هل توقفت الاستيطانات؟
هل رُفع الحصار عن غزة؟
هل توقفت آلة القتل التي لا تُصاب بالتخمة؟
بل هل نُزعت البندقية من كتف الجندي الصهيوني ساعة واحدة؟
كل ما جرى أن الأرض أُكلت بالتدريج، كما أُكل الثور الأبيض، وكما تُؤكل الأرغفة على المائدة، وأن "الحلم الصهيوني" تمدد، وتمدّد، حتى صار يخيَّل إليه أنه يُعيد تشكيل الإقليم بأكمله!
(3)
يا هذا المطبع المحترف...
حوالي الخمسين عاما. و«جثة السلام» ما زالت ملقاة في العراء..!
مرت العقود.. ومع كل ضربة صهيونية أمريكية جديدة على المنطقة العربية التي اسموها زورا وبهتانا، (الشرق الأوسط- ثم حولوها الى الشر... الأوسط، بدون القاف) يعود السؤال: ماذا أنجز التطبيع؟
لا حدود ضُبطت.. ولا دماء حُقنت.. ولا دولة فلسطينية وُلدت.. بل على العكس، تمدد الاحتلال البغيض أكثر، استوطن أكثر، وبات يضع شروطه على من كانوا يسمّون بـ “دعاة السلام”.
لكن السؤال الذي تهربون منه دائمًا: هل منحتنا هذه الـ«إسرائيل» يومًا واحدًا من حسن النية؟ رغم ان تعبير حسن النية كاذب، فلا شيء اسمه حسن نية وسوء نية في السياسة واتخاذ القرارات.
(4)
عار التطبيع لا يمحوه حبر المقالات..
وإن نعجب فعجب، يا أحد قادة كتبة التطبيع، حين تقول إن دعاة السلام ليسوا عشاقًا لإسرائيل؟ (!!!) الشامتون في التطبيع اليوم يصورون دعاته، كأنهم في حالة عشق مع إسرائيل.. ولكنك تدافع عنهم كما يُدافع العاشق المخذول عن خيبته..!! فمنذ متى كان "السلام" يعني التصفيق للقاتل وهو يقصف المستشفيات؟ منذ متى صار السلام يعني الصمت بينما تُبقر بطون النساء في غزة، وتُهدم البيوت فوق الرُكب، وتُمنع المساعدات ويُغتال الرضّع؟ منذ متى صار الجلوس مع القاتل سياسة، ورفضه جنون؟
(5)
أذكّرك وأذكركم أيها المهرولون- لعل الذكرى تنفع المطبعين وإن كان هيهات: التطبيع لا يوقف القتل.. ولا يمنع حربًا.. ولا يُعيد أرضًا.. ولا يُوقف استيطانًا.. بل هو مجرد رُخصة مفتوحة لعدو لا يؤمن إلا بالقوة، ولا يفهم إلا لغة المقاومة..
قفْ أيها الكاتب، ويا أيها «الكتبة» لقد آن لأقلامكم أن تخجل.. نحن لسنا "شامتين" بالتطبيع، كما وصفت أنت، وكلكم تهذون.. نحن نُقاومه لأنه بضاعة فاسدة قُدّمت لشعوب لا تزال ترى في القدس شرفها، وفي تحرير الأرض المحتلة هدفها.
نرفضه لأنه خيانة، لا وجه آخر لها.. لأنك حين تُصافح مَن قتل أبناءنا، فأنت تُبرّر فعله، وتُطمئن يده.
لسنا هواة شعارات، بل أبناء واقع لم يُغفل عنّا لحظة: كل “سلام” لم يُصنّع في مصانع الكرامة والمقاومة، سيُصبح قيدًا جديدًا في رقبة الأمة.
(6)
في الوقت الذي تُكتبون فيه مقالاتكم المسمومة، يُكتب على جبين فلسطين والمنطقة كلها جرحٌ جديد.
هل تعرفون «فلسطين»؟!!
صدّقني يا «عسل المطبعين الجدد»، إن الشعوب لا تُخدع طويلًا.. والتاريخ لا يرحم.
وسيأتي يوم تُمحى فيه كل هذه الكلمات التي تنضح بالخذلان، وتبقى فقط كلمات الصدق، والمقاومة، والإيمان بالحق، ولو بعد حين.
واهمون أنتم..!
مخدوعون أنتم..!
مخادعون أنتم..!
(7)
في المقال القادم:
شهادة أنيس منصور الموثقة: خنجر في قلب خطاب التطبيع.
وقد سجلتها له: السلام مع إسرائيل.. هو المستحيل!