حسين الراوي
جاءت فكرة هذا المقال في اللحظات الأولى من مشاهدتي "ذلك اللقاء"، حين تحدّث "الضيف" بعفوية صادقة عن الذات والترحال والخريف والحنين والهوية. عندها أدركتُ أن ما يقوله لا يخصّه وحده؛ بل يحمل معنى أوسع يستحق أن يُكتب عنه. وإني أخصّ صحيفة الرؤية العُمانية دون غيرها في أول نسخة منشورة من هذا المقال.
"أنا شخص لا أستقر، الاستقرار بالنسبة لي هو الموت، لذلك لا أستقر. لا أستقر نفسيًا ولا اجتماعيًا ولا عاطفيًا" محمد الشحري.
مرحبًا عزيزي القارئ، ذلك الاقتباس الذي في الأعلى مأخوذ من لقاء الروائي محمد الشحري الأخير، وهو يوضّح فلسفة الشحري في الحياة؛ فهو يرى أن الاستقرار في معناه التقليدي نوع من الجمود والموت الرمزي للروح، وأن التنقّل النفسي والاجتماعي والعاطفي عنده ليس مجرّد خيار؛ بل هو مبدأ وجودي.
هذه الرؤية لدى الشحري شبيهة برؤية الفيلسوف هيراقليطس القائل إن "كل شيء يتدفق ولا شيء يبقى"؛ فالشحري يرى أن الحياة جوهرها الحركة والتبدّل، وأن الاضطراب جزء من هويته وقلقه الخلّاق، معلنًا أن وجوده الحقيقي يكمن في التغيّر لا في الثبات.
هنا رجعت بي ذاكرتي إلى قول المتنبي:
على قلقٍ كأنَّ الريحَ تحتي
أُوَجِّهُها جنوبًا أو شمالا
يبدو أن محمد الشحري كان يشارك ذلك المعتقد الفكري -معتقد الترحال والقلق- مع المتنبي، الذي كان دائم الحركة، لا يعرف السكون ولا الراحة، ويعيش على الترحال والمغامرة والتجارب، وكأن الريح تحت قدميه تحمله من مكان إلى آخر، رمزًا للحرية والقلق "الدافع" والبحث عن تميّز الذات ومجدها.
في يوم 16 أغسطس 2025؛ أي منذ أيام قليلة، في حلقة من حلقات "هلا بالخريف" على إذاعة "هلا FM"، ظهر الروائي محمد بن مستهيل الشحري وهو مكشوف الرأس، بشعر ثائر كثيف متوسط الطول، وكأن كل خصلة فيه تحمل رسالة عن شخصيته العميقة وطبيعته الجبلية الأصيلة. ويؤكد أن الأدب لا يحتاج إلى ربطة عنق، وأن الكلمة الحرّة تخرج أيضًا من رأسٍ مكشوف ممتلئ بالفلسفة والحكايات.
أنا من الذين يستمتعون كثيرًا باستنباط التحليل الانطباعي لمن يجذبون انتباهي، محاولًا بذلك أن أفهم السمات النفسية والوجدانية والسلوكية لهم.
إن تلك المعاني التي لم تُقَل صراحة في أحاديث اللقاءات وسطور المقالات وصفحات الروايات ومتون الكتب، والتي تكون كامنة تحت العمق الفكري والروحي لأصحابها، هي بلا شك أصدق لهجة وأكمل فكرة وأعذب عبارة من كلماتهم التي أوصلوها لنا بشكل سريع ومباشر.
في القسم الثاني من ذلك اللقاء "هلا بالخريف"، الذي يكون فيه محمد الشحري الضيف التالي للبرنامج بعد لقاء د. جانيت واتسون، أيقظ انتباهي الشكل الذي ظهر به محمد الشحري! لدرجة أني أعدت من جديد مشاهدة أول دقيقتين من البرنامج، لكي أنصت للحوار من جديد، بعد أن سهوت مع تلك الإطلالة التي ظهر بها.
ماذا يريد محمد الشحري من خلال تلك الهيئة التي خرج بها؟ ما الرسالة التي أراد أن يوصلها للآخر؟
هذا الظهور ليس مجرد مرور عابر أمام العدسات، ولا تصرُّفًا عشوائيًا؛ بل هو اختيار واعٍٍ ومُتعمَّد، ينبض بالبساطة والتلقائية، ويعكس الانتماء العميق للأرض التي نشأ فيها. كل خصلة من شعره الثائر كأنها نبض صامت لشخصيته العميقة وروحه الجبلية الأصيلة، فيما إطلالته الخالية من التعقيد والمظاهر الرسمية تروي قصة الكاتب الذي يريد لأفكاره أن تنمو بحرية، كما تنمو الأشجار في الوديان والجبال الظفارية الشامخة، مؤكّدًا أن الإبداع الحقيقي يولد من صدق الذات وحرية الفكر بعيدًا عن القوالب المألوفة المتكاثرة بالاستنساخ واللهث وراء أضواء الإعلام.
في مقالي السابق عن الروائية جوخة الحارثية، تطرّقتُ لعلاقتي الوثيقة بالاقتباسات، وذكرتُ للقارئ سبب عشقي وتلذذي بتتبع الاقتباسات العميقة.
ومن تلك الاقتباسات العميقة ما ذكره محمد الشحري في اللقاء: "نحن هنا في ظفار وبالذات "الجباليين" نتبدّل حسب المواسم، في الخريف نعيش في أماكن، وفي الشتاء نعيش في أماكن، وفي الصيف نعيش في أماكن، وفي الصرب (الربيع) نعيش في أماكن، هذه الحياة… حياة الترحال هذه هي التي صاغتني. نحن نتبادل بحسب الفصول. الفصول هي التي شكّلت البيئة الظفارية، بإنسانها وتراثها وثقافتها وأجيالها وطبيعتها. الخريف هو رب هذه الكائنات، الخريف هو الذي مكّن وجمّل وشكّل هذه الطبيعة. الخريف ليس رذاذًا وضبابًا ومهرجانًا، الخريف هو هذا المكوّن السرمدي الذي كوّن كل هذه التشكيلات على مدى ملايين السنين".
في هذا الاقتباس يرى محمد الشحري أن الطبيعة شريكة في تكوين هويته وثقافته، وأن الفصول حدّدت نمط حياته وعلّمته التكيّف. الخريف في فكره ليس رذاذًا وضبابًا وسياحة ومهرجانات، بل هو رمز للقوة الخالقة، للطبيعة التي شكّلت الإنسان والبيئة، مما يعكس احترامه العميق وارتباطه الوثيق ببيئته.
ولعل هذه الرؤية تنسجم مع موقفه من الذات والزمن؛ ففي حديثه عن "الحنين" في ذات اللقاء، يفاجئنا محمد الشحري باعتراف صريح يمسّ جوهر الإنسان العابر في الزمن، حين يقول: “أنا أحن لمحمد الذي لم يعد موجودًا الآن".
يا الله! كم هي شفّافة!
هنا لا يتحدث عن غياب شخص آخر؛ بل عن غياب نفسه القديمة، عن تلك الطبعة الأولى التي صاغتها الطبيعة والرحيل بين الفصول. هذا الحنين إلى "الذات الماضية" يكشف عمق علاقته بالزمن والبيئة، ويجعل تجربته الشخصية انعكاسًا لفلسفة التغيّر التي يراها ناموسًا للحياة. الحنين إذن عنده ليس مجرد عودة إلى مكان؛ بل إلى "ذوات ماضية" ذابت في تيار الزمن، كما تذوب مياه النهر في مقولة هيراقليطس: "كل شيء يتدفق ولا شيء يبقى".
وفي ذات اللقاء قال محمد الشحري جملة تختصر فلسفته في الكتابة والحياة: "لم تُخلق لكي تُقنِع الآخرين، إنما لكي تتحدث عن تجربتك".
في هذه العبارة تتجلّى قناعته بأن الصدق مع الذات هو أساس الإبداع، وأن التجربة الفردية، مهما بدت بسيطة أو عابرة، تحمل في طياتها ما هو أعمق من محاولات الإقناع والجدال.
هكذا يبدو محمد الشحري ابن بيئته الظفارية، مشدودًا إلى ذاته الماضية بوشائج الحنين، ومتمسكًا بأصالته التي لم تفسدها تعقيدات الزمن. هوية ثقافية مُتجذِّرة في الجبال والوديان، وصوت صادق ينقل بساطة الروح وقوة الانتماء. شخصية قوية غير معقدة، تنبع قوتها من صفاء علاقتها بالطبيعة والذاكرة، لتصوغ ملامح كاتب ظل وفيًّا لجذوره، ومخلصًا لذاته التي لا تنفصل عن بيئته الظفارية.
الحديث عن فِكر محمد الشحري، الإنسان والروائي، لا يمكن أن يُختصر في أي لقاء أو حوار، حتى ذلك اللقاء الأخير لم يُسبر أغوار فكره الكامل. ومع ذلك، فإن محبة الفكر الناعمة التي أحملها، وفضولي الدائم تجاه “عمق الذات”، دفعاني لأن أصوغ هذه الكلمات عنه، محاولةً التقاط همسات روحه الفكرية وأصداء رؤيته للحياة.