د. محمد بن خلفان العاصمي
يبدو أن الوتيرة السريعة للحياة بإيقاعها العالي، أفقدتنا القدرة على التفاعل الصحيح مع الأحداث التي تمر بنا في اليوم، ولم يعد هناك وقت للتفكير كثيرًا والوقوف مع أنفسنا للاستفادة مما يقابلنا. وبالمقارنة مع السابق، وأعني قبل دخول التكنولوجيا في كل مفاصل حياتنا وانتشار وسائل الاتصال الحديثة والإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، كان يمر بنا حدث واحد يظل محور الحديث لفترة طويلة، ويجد هذا الحدث حقه في المناقشة والحوار والتفاعل، أمّا اليوم فالأحداث تمر دون انتباهٍ منا في كثير من الأحيان؛ بل إن كثرة الأحداث التي نتابعها في اللحظة الواحدة أفقدت هذه الأحداث قيمتها ومعناها.
قبل هذا الهجوم التكنولوجي لم نكن نعرف ما يجري في العالم إلّا من خلال وسائل بسيطة؛ لذلك انشغلنا بأنفسنا، وبذلنا جهدنا لتطوير مجتمعاتنا وتطوير ذواتنا وحرصنا على ترك أثرٍ مهما كان صغيرًا في هذه المجتمعات. ولذلك اشتغل الجميع في مهن الآباء، فكان الأبناء يزرعون ويحصدون مع آبائهم، وكانوا منغمسين في التجارة والمهن والحِرَف التي يمارسها آباؤهم، وكانت الفتيات ربات بيوت منذ الصغر، وتعلّمت أجيال الأمس مهارات خلقت لديهم قيمة مضافة مع التعليم والتخصصات العلمية، والعديد واصل مسار الآباء عندما أُتيحت الفرصة أمامه. وهنا تكمن أهمية هذه الثقافة التي كانت سائدة في المجتمع في ذلك الوقت. وكل ذلك تغيّر مع مرور الوقت والانشغال بالتكنولوجيا وعدم قدرة الأجيال على مواصلة السلوك الاجتماعي السابق، ومع الاتكالية المفرطة والحماية المبالغ فيها اختفت هذه السلوكيات وأصبح الاعتماد على الوافدين في كل شيء في حياتنا حتى داخل منازلنا.
لم تكن الحياة سهلة في تلك المراحل، وربما هذا هو سبب تلك التنشئة السليمة، وهذا أمر له إيجابياته في أحيان كثيرة، خاصةً عندما يتعلق الأمر بالسلوك الاجتماعي للفرد. ولا يختلف اثنان حول أهمية التحديات الحياتية وأثرها في نمو الشخصية لدى الإنسان، وكذلك أهمية وجود المثل العليا في المجتمع التي تجعل الفرد أكثر قدرة على مواجهة التحديات والصعوبات والتفاعل الإيجابي معها، وإكسابه القدرة على تحقيق النجاح والعيش وفق منظومة اجتماعية سليمة، وانعكاس كل ذلك على السلوك المجتمعي الذي هو نتيجة لخصائص مكوناته كبشر وثقافة وغيرها. وهذه الصعوبة التي صبغت المجتمعات في تلك الفترة أنتجت أفرادًا متحملين للمسؤولية.
ويبدو أن الضريبة التي سوف تدفعها المجتمعات اليوم نتيجة الثورة التكنولوجية ستكون باهظة الثمن فيما يخص القِيَم والسلوك، خاصةً تلك المجتمعات الهشّة التي فتحت الأبواب على مصراعيها دون أن يكون لديها منظومة موازية لتعزيز القيم وزيادة الوعي والإدراك بين الأجيال. وهذه المجتمعات سوف تدفع الثمن أضعافًا، إن لم تُسارع إلى وضع حلول تواجه فيها التدفق الهائل من المعلومات الخاطئة والعادات الدخيلة والثقافة المُضلِّلة، وسوف يصل الحال بهذه المجتمعات إلى فُقدان الهوية والتماهي مع ثقافات غريبة والانتهاء.
لقد تغيّرت سلوكيات الأجيال الحالية عن الأجيال السابقة بشكل واضح، وفي الوقت الذي كانت تضج فيه مجالس الشباب بالحديث عن الثقافة والإنتاج الفكري للمفكرين والكُتّاب والأدباء ويتجادلون حول المسائل الفقهية والفكرية، تنشغل الأجيال الحالية بأخبار المشاهير والمتابعات و"الستريكات" و"الفلوقات" ولقطات أكواب الشاي والقهوة. وبدلًا من أن يتأثروا فكريًا بالعلماء والأدباء والمفكرين والمثقفين أصبح تأثير "السوشال ميديا" ونجومه أكبر وأوضح حتى من تأثير الوالدين، ولم تعد الأجيال الحالية تعرف محمود عباس العقاد ولا طه حسين ولا جابرييل جارثيا ماركيز ولا باولو كويلو، ولا تجذبها الصالونات الثقافية والمعارض الأدبية، حتى معرض الكتاب أصبح فرصة لمشاهدة أحد المشاهير أو التقاط صور بانورامية تصلح للقصة في إحدى منصات التواصل الاجتماعي.
قد يكون أسوأ ما ابتُليت به المجتمعات من خلال استخدام وسائل التواصل الاجتماعي هو الإفراط في النقد والمبالغة في السلبية، واستخدام العدسة المكبرة لكل خطأ أو سلوك خاطئ. ولهذا السلوك البشري أساس فلسفي ينطلق منه؛ فحسب رأي أرسطو فإن المجتمع المفرط في السلبية أو الإيجابية هو نتيجة للانحراف عن الفضيلة، وإن تضخيم السلبيات خروج عن "الوسط الذهبي" لصالح الإفراط في النقد؛ مما يخلُّ بالتوازن الأخلاقي للمجتمع. ويرى الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر، رائد الفلسفة الوجودية، أن القلق يجعل الإنسان أكثر حساسية للسلبيات لأنها تهدد وجوده ومعناه، بينما الإيجابيات تمر عابرة؛ لذلك فإن الواقع السلبي يصبح "مرآة" تعكس هشاشة الوجود. وهناك تصور آخر حول هذا السلوك يتمحور حول السيطرة والتحكم ولفت الانتباه والأنظار من خلال التركيز على السلبيات.
إن وقوع المجتمع في دائرة الانشغال بالنقد والانغماس فيه يفوّت عليه فرص التقدم والتطور، خاصةً عندما يكون النقد خارج إطار النقد الإيجابي الذي يُبنى على أسس علمية واضحة، وينتج من خلال استخدام أساليب التفكير الناقد التي تؤدي إلى نقد واقعي غير مبالغ فيه، إضافة إلى صدوره من أصحاب الاختصاص والعلم والمعرفة والخبرة التي تجعل من هذا النقد ذا قيمة. ولأن العقل الجمعي حاضر بقوة في الوسط التقني فإن انتقال النقد السلبي والنظرة التشاؤمية بين الناس لا يستغرق الكثير من الجهد والوقت؛ ولذلك يُخيَّل إليك وأنت تتصفح هذه المنصات أن لا شيء يمشي بشكل صحيح في هذا العالم، حتى إنك تشك في أنك تعيش حياة مغلوطة ليست واقعية.
لستُ من محاربي التقنية الحديثة؛ بل إنني من أنصارها وبشدة، وأرى أنها سهّلت حياتنا بشكل كبير، خاصةً كشخص عاش الفارق بين الماضي والحاضر، ولامس ما الذي أحدثته التكنولوجيا في جميع جوانب حياتنا. وأرى أن هناك قيمة كبيرة في أعماق هذه التقنيات لم نصل إليها كمجتمعات مستوردة للمعرفة والتكنولوجيا، ويجب أن نعيد النظر والتفكير في كيفية التعامل معها بشكل صحيح، حتى نتمكن من الاستفادة منها كما فعلت المجتمعات الأخرى. ولا بُد من الحفاظ على هويتنا الثقافية والاجتماعية وألّا ننساق خلف التأثيرات السلبية للتكنولوجيا. وهذا يتطلب جهدًا كبيرًا من الأُسرة والمدرسة والمجتمع، وهي مسؤولية لا بُد من القيام بها. وإن الانعزال والهروب والمنع لن يحل المشكلة؛ بل إنه سوف يُعمِّقها ويمنحها المجال للتغلغل والتمكن داخل الأفراد. ويجب أن ننتبه لما تخلقه هذه الوسائل من تأثيرات سلوكية سلبية على المجتمع، وأن نعي التحولات التي طرأت حتى نتمكن من تحقيق التوازن المطلوب.