صاحب السمو السيد/ نمير بن سالم آل سعيد
مسافرٌ بالطائرة، وحظي أوقعني في الجلوس مع أحد رجال الأعمال، شخصية متفائلة مُفعمة بالحياة، لديه خططه وبرامجه وأنشطته ومشاريعه التجارية، ويعيش حياته بكل تنوّعها وتفاصيلها. هكذا بدا لي أثناء حديثه معي.
وفجأة رأيته يتنفس بصعوبة في ضيق، ضاغطًا بكفّه على صدره، وقبل أن أتمكن من طلب المساعدة لإسعافه إذا به يلفظ أنفاسه الأخيرة. هذا ما حصل، وفي ثوانٍ وافته المنية! توفي دون سابق إنذار. انقطع نفسه وتوقف نبضه، وأصبح جثة هامدة.
وأراه الآن ميتًا يجلس على يميني بلا حراك، بعينين جاحظتين وفمٍ فاغر. أنظرُ إليه بتوجّسٍ غير مُصدّق لما حدث.
أبلغتُ على الفور بعض طاقم الطائرة عن وفاة هذا المسافر بجانبي، فجاؤوا ليتفحصوه وأكدوا وفاته. طلبتُ منهم حمله إلى مكان آخر في الطائرة أو نقلي بعيدًا عنه؛ فأبلغوني بأن الطائرة مكتملة العدد ولا مفرّ من الجلوس بجانبه في نفس المكان لسبع ساعات طوال، بما تبقى من مسافة الرحلة.
نهضتُ من مكاني لأواصل الرحلة واقفًا في الممر؛ فطلبوا مني العودة مرة أخرى إلى مكاني، فإشارة ربط الأحزمة مضاءة، وكذلك غير مسموح الوقوف على ممرات الطائرة في كل الأحوال لضمان انسيابية الحركة.
عُدتُ إلى مقعدي مُضطرًا وأنا في حالة تشاؤم وانقباض نفسيّ من هذا الميت الذي يجلس بجانبي.
جلستُ أسترق النظر إلى عينيه وهو ينظر في الفراغ، وجسده هامد بلا حراك.
وروحه -لا أدري- هل غادرت الطائرة كما غادرت جسده، ونحن على ارتفاع خمسة وثلاثين ألف قدم؟! أم أن روحه ما تزال موجودة بيننا تُرفرف في المكان، مغلقة عليها في الطائرة مثلنا بانتظار هبوط الطائرة لتغادر المكان؟
أغمضتُ عينيْ الميت المفتوحتين على العدم، وقرأتُ الفاتحة على روحه وترحّمتُ عليه، وسألتُ الله له القبول وأن يُدخله فسيح جناته، وأنا لا أعلم إلى أي ديانة ينتمي هذا المتوفى، أو لا انتماء دينيًا له، أو ماذا تعني الذنوب في منهجه، وما الحلال والحرام في شريعته، وما الذي ظفر به من سرور في حياته وما الذي فاته من متع الحياة؟! وهل تحكّمت فيه المحرّمات الدينية المفروضة عليه فانحرم، ومنعته فامتنع، أم عاش حياته كما يريد هو لا كما يريد من نصّبوا أنفسهم كهنة وقديسين على الأخلاق والدين؟!
وكيف هي قصة حياته التي بدأت وانتهت؟ ومن أين أتى ولماذا رحل؟
لا أعلمُ، وكل ما أعلمه أن هذا المتوفى انتهى أمره الآن، وبذلك خسر ثروته التي جناها إذا كان غنيًا ليأخذها من يستحق أو لا يستحق، وتوقفت سلطته إذا كان ذا نفوذ ليقبضها غيره جديرًا أو فاشلًا، وتبددت حكمته إذا كان رشيدًا فلا يستطيع أن يمنحها لغيره.
اختفى وجوده من الحياة، وترك مُحبيه وكارهيه، رؤساءه ومرؤوسيه، هزائمه وانتصاراته، ترك ضعفه وقوته، وحاضره ومستقبله وماضيه. لم يعد لديه شيء الآن، ولا شيء يستطيعه، لن ينطق بعد اليوم، لن يتكلم، لن ينفع أو يضر، لن يوافق أو يرفض، لن يُخطئ أو يُصيب، لن يُعارض أو يؤيد، لن يثور أو يستكين، لن يفرح أو يحزن، لن يظلم أو يعدل، لن يكون أو لا يكون.
قُدِّر على البشر هذا الموت، يحصد أرواح الناس جملةً وفرادى، يظنونه بعيدًا وهو قريب، مُتربص بهم عند كل زاوية وطريق، ينتظر فرصة لاقتناص حياتهم، وهم عنه غافلون.
أعود أختلس النظر إلى الميت الجالس بجانبي، رفيق الرحلة المشؤوم، وأنا مُتأففٌ من وجوده نافرٌ منه. جثة هامدة في جوفها العدم.
الأحياء يخافون من وجودهم مع الأموات، حتى أقرب الناس وأعزّهم للميت لا يريدون التواجد معه أكثر من دقائق معدودة للوداع، ثم يسارعون في مواراته التراب، لينفضّ الجميع في شأنه.
وأنا مُجبرٌ على أن أبقى مع هذا الميت سبع ساعات طوال؛ فأخذتُ طوال الطريق أُسبّح لله وأحمدُه على أنه لم يختَرني لأموت على متن هذه الطائرة؛ بل المسافر الآخر في الكرسي المجاور، لأعيش يومًا آخر نابضًا بالحياة.
"قدّر الله وما شاء فعل".