الصين.. الشركة العملاقة المحدودة "CHINA INC"

 

 

علي الرئيسي

كانت مدينة فوشان (Foshan) محطتنا الأولى، وهي مدينة تقع في مقاطعة كياندونج، وتُعد مدينة أثرية قديمة. اليوم، تُعد فوشان إحدى المدن الصناعية المشهورة في الصين؛ مدينة تتسم بالنظافة والرقي، وتمزج بين التراث والحداثة. تشتهر بالفنادق والمطاعم والمراكز التجارية العامرة، كما تُعرف بصناعة الأثاث بمختلف أنواعه، وصناعة الرخام. هنا لا ترى شحاذين أو معدمين أو أشخاصًا بلا مأوى، ويفتخر أهل فوشان بأنها مسقط رأس "بروس لي" معلم الكونغ فو الشهير.

"لا يهم لون القط، سواء كان أبيض أو أسود، ما دام يصطاد الفئران". هذه المقولة الشهيرة للزعيم الصيني دنغ شياو بينغ قد تُفسِّر تغيّر العلاقة بين القطاع العام والقطاع الخاص، وهي جديرة بالدراسة. فمنذ بداية الثورة الصينية، كان القطاع العام، وبالذات الشركات المملوكة للدولة (SOE)، العمود الأساسي للاقتصاد الصيني. وكانت الحكومة الثورية، المتبنية للماركسية الماوية، لا تسمح بوجود قطاع خاص في البلاد. وكانت الشركات العامة تقوم بكل شيء: من بناء الجسور والمطارات إلى الملاعب والمصانع والطرق.

قصة نشوء القطاع الخاص في الصين قصة فريدة. إذ إن الخطوات التي اتخذتها الصين في إصلاح اقتصادها كانت متدرجة، ما جعلها تتجنّب ما حصل في الاتحاد السوفيتي ودول الكتلة الشرقية عند التحول إلى القطاع الخاص عبر ما يُسمى بالصدمة الاقتصادية، التي أدت إلى تدهور اقتصاديات تلك الدول وهيمنة الأوليغارشية على مقدرات القطاع العام ونهبها، فضلًا عن تدهور الوضعين الاقتصادي والاجتماعي.

في البداية، سمحت الصين -بعد صراع طويل- بإنشاء شركات خاصة، بشرط ألّا يتجاوز عدد العاملين فيها عشرة أشخاص. ثم بدأت بالسماح للقطاع الخاص بالنمو تدريجيًا. وعندما يُسأل الصينيون: هل الصين بلد رأسمالي؟ يجيبون: لا، إنها بلد اشتراكي "بنكهة صينية"؛ أي إن رأس المال يخضع في النهاية لتخطيط الدولة، بخلاف الدول الرأسمالية التي يسيطر فيها رأس المال على الدولة.

الشركات العامة كانت تتمتع بنوع من الاحتكار؛ إذ كان من السهل حصولها على الائتمان من البنوك، خصوصًا وأن هذه البنوك مملوكة للدولة. لكن في فترة ما، تراجع أداؤها، ما انعكس على القطاع العام والاقتصاد ككل. عندها سمحت الحكومة للقطاع الخاص بالنمو وتوظيف عدد أكبر من العمال، فانتعشت المصانع الخاصة وبدأ الاقتصاد في الصعود. وبعد فترة، أعادت الحكومة هيكلة الشركات العامة، وحاربت الفساد فيها، فتمكنت من منافسة القطاع الخاص. كما سمحت الحكومة بمشاركة الشركات العامة في الشركات الخاصة، وهو ما رحّب به القطاع الخاص؛ إذ سهّل ذلك حصول هذه الشركات على التراخيص المطلوبة والائتمان. غير أن الحكومة حرصت على أن تكون مساهمة الشركات العامة مساهمة أقلية، بحيث يظل القطاع الخاص هو المسيطر على الإدارة، مما جعل هذه الشراكات ناجحة، وانعكس إيجابيًا على أداء الشركات والاقتصاد بشكل عام.

تصف الاقتصادية الصينية "كاي جين" في كتابها الصين الجديدة بلادها بأنها أشبه بشركة عملاقة (شركة الصين المحدودة)، تهدف إلى تعظيم الإيرادات والاستدامة عبر تحفيز الموظفين، وضمان عدم دفن أفكار الابتكار تحت طبقات البيروقراطية، وتشجيع النقاش البنّاء حول كل قرار مهم. أما التحدي الأساسي الذي تواجهه الشركات الصينية، فيكمن في كيفية مواءمة مصالح موظفيها، ليس فقط مع أهداف الإدارة، بل أيضًا مع المساهمين ومع عامة الشعب.

وتشير صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية إلى أن الصين لم تعد بلدًا يكتفي بتقليد صناعات الآخرين. فقد أدى الارتفاع الكبير في الأبحاث عالية الجودة وطلبات براءات الاختراع إلى تعزيز هيمنة الصين على الصناعات التكنولوجية، خصوصًا في مجال محركات السيارات الكهربائية. ففي عام 2000، لم يتجاوز عدد براءات الاختراع في مجال الطاقة النظيفة 18 براءة، بينما تقدّم الصينيون في عام 2022 بأكثر من 5000 طلب اختراع.

وعلى مدى عقدين من الزمن، قفزت الصين قفزات نوعية مقارنة بدول أخرى، حيث أنتجت تصميمات مبتكرة في طاقات المستقبل: الطاقة الشمسية، وطاقة الرياح، والبطاريات، والسيارات الكهربائية. وبعد أن كانت متهمة لسنوات بنسخ تكنولوجيات بلدان أخرى، باتت الصين اليوم تهيمن على مشهد الطاقة المتجددة، ليس فقط من حيث براءات الاختراع والأبحاث، بل أيضًا من حيث المساهمات الأساسية التي ستساعد في دفع العالم بعيدًا عن الوقود الأحفوري. وفي الصيف الماضي، أولى قادة الحزب الشيوعي الصيني، خلال اجتماعهم لتخطيط مستقبل البلاد، اهتمامًا أكبر بالتدريب والتعليم العلمي أكثر من أي سياسة أخرى، باستثناء تلك المتعلقة بتعزيز الحزب نفسه.

وفي منتصف عام 2015، أعلنت الحكومة الصينية عن برنامج "صُنع في الصين 2025"، الذي خُطط لأن يُوفر للشركات العاملة في 10 صناعات استراتيجية قروضًا كبيرة ومنخفضة الفائدة من صناديق الاستثمار الحكومية وبنوك التنمية، إضافة إلى المساعدة في استقطاب المنافسين الأجانب، فضلًا عن الدعم السخي للبحث العلمي. وكان الهدف المعلن آنذاك هو سيطرة الشركات الصينية على 80% من الأسواق المحلية لتلك الصناعات بحلول عام 2025.

الأكثر قراءة