الحكمة.. بوصلة العقل في زحام الحياة

 

 

 

د. ذياب بن سالم العبري

 

في زمنٍ تتسارع فيه الأحداث، وتتزاحم فيه الأصوات، وتتداخل فيه المصالح، يبقى العقل السليم في أمسّ الحاجة إلى بوصلةٍ متزنةٍ تهديه في طريق الاختيار، وتمنحه القدرة على التوازن وسط تيارات الحيرة والضجيج. تلك البوصلة هي الحكمة… لا بوصفها معرفةً جامدة، ولا حنكةً ظرفية؛ بل سلوكًا متراكمًا، ينبض بالبصيرة، ويُوزَن بميزان الرشد والتجربة وحُسن التقدير.

حين يُروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الحكمة ضالة المؤمن، أنَّى وجدها فهو أحق بها"، فإن المعنى لا يتوقف عند حدود الدين؛ بل يتعداه إلى الإنسان أينما كان؛ فالحكيم لا يتوقف عند مصدر الفكرة؛ بل عند صدقها ونفعها. وقد يُسدي له طفلٌ عظة، أو يُلقي عليه خصمٌ نور بصيرة، أو يفتح له خطأ بالأمس باب صوابٍ في الغد؛ إذ إن الحكمة ليست سلوكًا فوقيًا؛ بل تواضعٌ عميق، وهدوء يسبق الفعل، وتأنٍ لا يفتقر إلى الحسم.

وقد أجمعت النظريات النفسية والسلوكية الحديثة على أن الحكمة عنصر محوري في بناء الإنسان المتزن. فهي تُمكّنه من التحكم في قراراته، وفهم واقعه، وتقدير عواقب أفعاله. يرى الباحثون أن من يمتلك الحكمة لا يقع فريسة للانفعالات السريعة، ولا ينجرّ خلف القرارات العاطفية؛ بل يتأنّى، ويقيس، ثم يختار. وهي رؤية تتقاطع في جوهرها مع ما ورثناه من أمهات الجدات والآباء، حين كانت الكلمة تؤخذ من “العاقل” في المجلس، لا من "الأسرع" في الرد.

وفي الاقتصاد، لم تعد الحكمة رفاهًا سلوكيًا؛ بل ضرورة عملية. وقد كتب الاقتصاديون المعاصرون كثيرًا عن أثر الحكمة في القرارات المالية، وتفادي ما يُعرف بـ"الانحيازات السلوكية"، كالشراء تحت التأثر اللحظي، أو الاستدانة دون تقدير للعواقب. وما أكثر المواقف التي رأينا فيها في مجتمعاتنا العمانية القديمة من يقول: "اقطع على قد لحافك، ولا تبع عقلك لرغبتك". كلمات بسيطة، لكنها تنبض بحكمةٍ تتجاوز كثيرًا من النظريات.

وفي الاجتماع، لا غنى عن الحكمة في ضبط العلاقات، وإطفاء نيران الخلاف قبل أن تتّقد. هي التي تجعل الإنسان يصفح دون ضعف، ويعتذر دون حرج، ويقول لا وهو يبتسم. وهي التي كانت أساس المجالس العُمانية العرفية التي تُفض فيها النزاعات، وتُحل فيها القضايا بالهدوء والاحترام، قبل أن يُكتب فيها محضر أو يُختم فيها توقيع.

وفي القيادة، الحكمة ليست خيارًا؛ بل شرط استدامة. فالموقع بلا حكمة مَزِلّة، والصوت المرتفع بلا حكمة صَدى فارغ. وقد أدرك المفكرون أن القائد الحكيم هو من يُدير بالسماع قبل الكلام، وبالمشورة قبل القرار، وبالنظر إلى مصلحة الناس لا إلى بقاء الكرسي. والحكمة في هذا المقام لا تعني التردد؛ بل تعني البصيرة.

أما في الشريعة الإسلامية، فقد جاءت الحكمة قرينة للخير، فقال تعالى: "ومن يُؤتَ الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا". هي جوهر التشريع، وروح التعامل، وسند الفقه في المعاملات كلها. من البيع والشراء، إلى الزواج والطلاق، إلى القضاء والصلح. وكلما ترقّى الإنسان في فهم مقاصد الشريعة، أدرك أن الحكمة فيها ليست "رأيًا"؛ بل قاعدة: أن تُراعي الحال، والزمان، والمآل.

وهنا، نصل إلى جوهر القضية: نحن في أمسّ الحاجة اليوم إلى مزيد من ترسيخ قيمة الحكمة في بيوتنا، ومدارسنا، ومجالسنا. أن نُربّي أبناءنا على مهارة التروّي، لا على ثقافة العجلة، وعلى فنّ الإصغاء لا على التباهي بالرد. الحكمة لا تُعلّم في درسٍ واحد؛ بل تُغرس بالصمت حين يغضب الآخر، وبالصفح حين يُخطئ القريب، وبالقرار المتّزن حين يُغريك التسرّع.

الحكمة لا تصرخ، لكنها تُسمع. لا تتعجّل، لكنها تصل. ومن وُهِبها، فقد امتلك سلاح العقل، ورفاه النفس، وطمأنينة المسير.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة