عندما يصمت العقل

 

 

 

محمد بن علي بن ضعين البادي

في عالم يزدحم بالضوضاء حتى غدت الحقيقة همسًا بالكاد يسمعه العقل، تقف المنصات الرقمية كوحوش إعلامية ضخمة تصنع للأمم ما يجب أن تنشغل به، وتمنح الناس ما يجب أن يفكروا فيه، ولو كان سرابًا. لم يعد الخطر في كثرة الأخبار؛ بل في مَن يتحكم ببوابة العقول، وفي مَن يدير هذا السيل الجارف من الرسائل التي تهز مشاعر الناس كل يوم، بينما تسرق منهم قدرتهم على التمييز شيئًا فشيئًا.

لقد أصبحت كثير من المواقع ليست منصات للمعلومة؛ بل ساحات كبرى لتوجيه الوعي الجمعي، وإغراق المجتمعات في دوامة مستمرة من الجدل، وتصعيد القضايا الصغيرة حتى تبدو وكأنها قدر محتوم، بينما القضايا الحقيقية تُدفع بعيدًا إلى آخر الصف، كأنها لا تستحق الضوء ولا السؤال. وهكذا، يتحول الإنسان من باحث عن المعرفة إلى متلقٍّ تُدار بوصلته من الخارج دون أن يشعر.

وفي خضم هذا الزحام، برز بعض المغرّدين الذين لا يزالون يكتبون عن أفكار تجاوزها الزمن، أفكار تركتها الأجيال منذ قرون لأنها لا تشبه واقعنا ولا تتناسب مع حياة اليوم. ومع ذلك، تتلقّف المنصات هذه التغريدات العتيقة كأنها اكتشاف جديد، وتدفعها إلى الواجهة بما تملكه من قوة الانتشار، فتزيد من ارتباك الوعي وتفتح أبواب الفتنة على مصاريعها.

والمواطن البسيط حين يقرأ مثل هذه الآراء التي لا تعكس واقعًا ولا تعالج مشكلة، يشعر بالتحفّظ ثم الضيق، ثم يتحول ذلك الضيق إلى حقد على الوطن والمسؤولين، ظنًا منه أن تلك الكلمات تمثل الحقيقة أو تكشف خللًا لم يُعالج، بينما هي في حقيقتها مجرد أصوات ماضوية أُعيد إحياؤها بلا وعي وبلا فهم.

والأدهى من ذلك أن صاحب تلك التغريدة لو طُلب منه أن يطبّق ما ينادي به على نفسه وعلى حياته ومعاملاته، لما قبل به لحظة واحدة، ولعرف أن ما يقوله لا يصلح لزمنه ولا يناسب واقعًا يتغير كل يوم. ولكن المنصات، في سعيها للجدل لا للحكمة، تجعل من هذه الأصوات الهشّة معاركَ رأي عام، وتدفع الناس لصراع لا يخدم إلا مَن أراد أن يبقى المجتمع مشغولًا بما لا يفيد.

في زمن أصبح فيه الخبر يسبق الواقع، والضجة تطغى على الحقيقة، تحولت المنصات الرقمية إلى مصانع للانشغال لا مصانع للوعي. لم تعد تلك المواقع تهتم بما يحدث فعلًا؛ بل بما يشغل الجمهور ويشعل النقاش ويثير الانفعال. تكبر التوافه حتى تبدو قضايا كبرى، وتختفي القضايا الكبرى تحت غبار التوافه.

إن أخطر ما تفعله هذه المنصات أنها لا تسرق وقت الإنسان فقط؛ بل تسرق اتجاهه. تدفعه ليتابع ما لا ينفع، وينشغل بما لا يضيف، ويغرق في تفاصيل صغيرة بينما تمر القضايا العميقة من أمامه كأنها لا تعنيه. إنها تصنع من اللاشيء معارك، ومن المعارك فتنًا، ومن الفتن انشغالًا جماعيًا يغرق فيه الجميع دون وعي.

المنصات التي تدرك قوة تأثيرها لا تعمل على رفع مستوى الناس؛ بل على رفع مستوى التفاعل. تعرف أن التفكير يقلل التعلّق، وأن الانفعال يزيده، ولذلك تُبقي المتابع في دائرة لا تنتهي من الغضب أو الفضول أو الخوف. وهكذا يصبح الإنسان مستهلكًا للضوضاء، لا باحثًا عن الحقيقة.

وعندما يتعود المجتمع على الأخذ دون تدقيق، وعلى التلقّي دون بحث، يصبح الطريق مفتوحًا أمام من يريد أن يصنع له وعيًا جديدًا لا يشبه واقعه ولا يخدم قضاياه.

إن الوعي اليوم لم يعد ترفًا؛ بل ضرورة للبقاء. وأعظم ما يمكن للإنسان فعله وسط هذا الصخب هو أن يحمي عقله من التشويش: أن يختار ما يسمعه، ويزن الأخبار بميزان الحكمة، وأن يدرك أن كثيرًا مما يمر أمامه ليس إلا دخانًا مقصودًا لإرباكه وصرفه عن الأسئلة الكبيرة.

وفي ختام هذا المشهد الصاخب، لا بُدّ أن نقولها بوضوح صارخ: إن هذه المنصات ليست مجرد مصادر خبر؛ بل مصانع أمراض. إنها تزرع القلق في صدور الناس، وتسكب السم في الوعي، وتدفع العقول إلى حافة الانهيار تحت وطأة السلبية والتحريض والتشويه. كل دقيقة يقضيها الإنسان بين تلك الصفحات السوداء هي دقيقة تُنتزع من صفاء روحه ومن استقراره الداخلي.

هذه المنصات لا تريد لك أن تفهم؛ بل تريدك أن تنفعل. لا تريدك أن ترى الحقيقة؛ بل تريدك أن ترى ما يصنع ضجّة. إنها تمتص طاقة الإنسان حتى آخر قطرة، ثم تتركه فارغًا، غاضبًا، حاقدًا، يائسًا، متلبّسًا بأوهام لا وجود لها إلا في غرف التحرير الملوّثة التي تصنع المحتوى لتشويه المجتمعات لا لبنائها.

ولذلك، فإن الحذر منها لم يعد خيارًا؛ بل ضرورة لحفظ كرامة العقل قبل صحة الجسد. الابتعاد عنها ليس انسحابًا؛ بل انتصارًا للنفس، والنجاة منها ليست هروبًا؛ بل صونًا للوعي وحماية للسلام الداخلي. فمَن أراد السلام، فليغلق باب هذه المستنقعات الرقمية، وليعرف أن من يترك نفسه لها خاضعًا، فإنه يقدم روحه قربانًا لمن لا يريد له خيرًا ولا استقرارًا.

إن أخطر ما ينتظرك خلف هذه الشاشات ليس خبرًا مزيفًا… بل نفسك حين تفقدها.

 

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة