د. محمد بن خلفان العاصمي
إعلان رئيس وزراء الكيان الصهيوني أنه في مهمة روحية وتاريخية لإقامة ما يزعم أنها "إسرائيل الكبرى"، التي سوف تضم أجزاء واسعة من المناطق بين نهري الفرات والنيل، هو بمثابة إشارة البدء في إطلاق شرارة صراع واسع النطاق بين الشرق والغرب، وهو الإعلان الصريح لتحقيق حلم الصهيونية العالمية وبداية اكتمال مشروع هرتزل، الذي أعلن عنه منذ ما يزيد على 150 عامًا، عندما أعلن عن حلم دولة اليهود التي تنشأ في أرض فلسطين وتتوسع لتشمل جميع البلدان العربية بين النهرين بشكل كامل أو جزئي.
هذا الإعلان هو الخديعة الكبرى التي ظلّ بعض العرب يُنكرون جُرأة إسرائيل في اتخاذ هذه الخطوة، لدرجة أن البعض مدّ يد التطبيع واعتقد أن هذا الكيان الغاصب الحاقد يمكن أن يركن إلى السلام وأن يتحدث بلغة غير لغة السلاح والحرب والدمار. وقد تكون مشاعر الخيبة بادية الآن على الوجوه، رغم أن جميع المؤشرات تدل على أن هذا المحتل ماضٍ في طريقه، غير مكترث بأي دعوة لوقف العنف، وغير منصاع للقوانين والمعاهدات والاتفاقيات الدولية، ويضرب بعرض الحائط كل ما يعترض طريق إكمال "المشروع الحلم" الذي يرعاه الغرب منذ نشأته وحتى الآن.
السؤال الأهم: لماذا هذا التوقيت بالذات لإعلان المشروع بشكل صريح، دون مواربة أو دبلوماسية كما هو معتاد؟ والجواب يكمن في تتبّع مسار الأحداث السياسية في المنطقة؛ حيث تعاظمت قوة إسرائيل في منطقة الشرق الأوسط وتنامت قوتها العسكرية والاقتصادية، وقدرتها على تسيير الأحداث لمصلحتها. ففي الوقت الذي عصفت فيه رياح التغيير بأغلب دول الشرق الأوسط، وخاصة دول الطوق، ظلّ هذا الكيان المحتل بعيدًا عن كل ذلك. وبعد أن كان يعاني من عدة جبهات تمثل المقاومة في الداخل والخارج، لم يبقَ إلا حماس في ساحة الصراع المسلّح. وبعد أن تجاوز الكيان الغاصب مرحلة العمليات الفدائية والخطف والجبهات المشتعلة، وتمكّنه من نقل المعركة من داخل أرض فلسطين إلى البلدان العربية، لم يبقَ الكثير ليؤرّق هذا المحتل.
لقد أدركت إسرائيل أنه لا وجود لأي قوة عربية أو إسلامية يمكنها أن تمنع قيام المشروع، خاصة بعدما بدت دول الشرق الأوسط ضعيفة وتنتهج سياسة المصلحة الخاصة لا المصلحة العامة، ولسان حالها جميعًا الآن: "أُكلتُ يوم أُكل الثور الأبيض". لكن هذا الإدراك جاء متأخرًا وبشكل كبير؛ حيث لم يعد هناك مجال إلا للمواجهة المباشرة وباستخدام قوة السلاح، والتي تبدو فيها موازين القوى مختلّة، خاصة مع الدعم اللامحدود للمشروع الصهيوني الذي بات مثل السرطان ينهش جسد الأمة الإسلامية والعربية على حد سواء.
ووسط كل هذه الأحداث تأتي فتاوى التكفير ودعوات الطائفية لتُعمِّق من جراح الأمتين، وكأن كل هذه الجراح التي أثخنت جسد المسلمين لا تكفي. وما هذه الدعوات إلّا جزء من هذا المشروع الخبيث، ومن ينتهجون هذا النهج ما هم إلّا أدوات صهيونية دُرِّبت وأُعِدّت بشكل احترافي وممنهج لتقوم بهذا العمل الذي يُسهِّل سرعة إنجاز المشروع. وما نسمعه من بعض المُتستِّرين بالدين الإسلامي والمُحسوبين على المؤسسات الدينية من فتاوى تكفيرية وأحاديث تُؤجِّج الطائفية وتضرب المذاهب بعضها ببعض، يدعو للوقوف كثيرًا والضرب بيد من حديد لكل من يزرع إسفين الفرقة في جسد الأمة. وقد أحسنت دولة الكويت العزيزة عندما تصدَّت لهؤلاء المُدَّعين الذين امتهنوا الفتنة وضلّوا سواء السبيل.
هل حان موعد الملحمة الكبرى؟ وهل سوف يستفيق المسلمون من سباتهم قبل سقوط الجدار الأخير الذي يحول دون تنفيذ مخطط بني صهيون؟ هل تُدرك الأمة الإسلامية أن غزة بمثابة غرناطة، والتي إذا سقطت سوف تكون بداية النهاية؟ هل ما زالت معركة بلاط الشهداء حاضرة في ضمير الأمة لتستفيق وتأخذ بثأرها؟ كل هذه الأسئلة تبحث عن إجابات، ولكن الأهم من ذلك أن كل هذا الطغيان والاستعلاء والغطرسة التي يملأ بها هذا الكيان الغاصب تشير إلى أنه يسير نحو نهايته الموعودة، ومصيره المحتوم، والمواجهة الكبرى الحاسمة.
على المسلمين أن يتسلحوا بالإيمان، وعليهم أن يواجهوا مصيرهم بكل تماسك وثبات. يقول المُفكِّر المصري الدكتور عبدالوهاب المسيري، الذي توقّع نهاية هذا الكيان المتجبِّر المتغطرس: "إن إسرائيل مشروع استيطاني مثل المشروع الاستيطاني الغربي الذي كان قائمًا في جنوب إفريقيا، وهذا المشروع سوف يتآكل ويتفكك وينتهي تمامًا مثل مشروع جنوب إفريقيا، وسوف تعود فلسطين لأهلها". فيما يقول الكاتب اليهودي شلومو رايخ في هذا الصدد: "إن إسرائيل تركض من نصر إلى نصر حتى تصل إلى نهايتها المحتومة؛ فالانتصارات العسكرية لم تحقق شيئًا"؛ وذلك لأن المقاومة مستمرة، مما يؤدّي إلى ما سمّاه المؤرخ الإسرائيلي يعقوب تالمون -نقلًا عن هيغل -"عُقم الانتصار".
هذا هو المصير الذي وعد به القرآن الكريم هذا الكيان الفاسد عبر التاريخ، وهو وعد حق سوف يتحقق مهما اشتدّت قوته وزادت غطرسته، قال الله تعالى: "ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ" (آل عمران: 112).