التجويع.. جهد العاجز ووحشية المستبد (1)

 

مصطفى محسن اللواتي

"التجويع" واحد من أبشع أنواع الأسلحة التي تم استخدامها من قبل أنظمة قمعية أو عسكرية استعمارية. وعبر التاريخ القديم وإلى يومنا يستخدم هذا السلاح لتركيع الشعوب والأمم، وإذلالها، وللإبادة الجماعية، وأيضا للقمع العسكري، والضغوط السياسية، والأبشع من كل هذا للانتقام والتشفي.

نستعرض هنا بعض أسباب ممارسة "التجويع" كسلاح، والتي استخدمت في التاريخ القديم والحديث، وبعض الأمثلة عليها:

الضغط العسكري والاحتلال

1) في عام ٧٠ للميلاد فرض الرومان حصارا خانقا على القدس سبب مجاعة مهولة لدرجة روى بعض المؤرخين أن الناس أخذوا يأكلون لحوم موتاهم.

2) عام ١٩٤١م حاصرت ألمانيا أيام هتلر مدينة لينينغراد (سان بطرسبورج) لتركيع وإخضاع الاتحاد السوفييتي، استمر الحصار ٨٧٢ يوما، أدى إلى مجاعة مروعة قتل فيه الملايين.

 

3) عام ١٢٥٨م أيام الخلافة العباسية حاصر المغول مدينة بغداد، قبل اقتحامها مسببين مجاعة شديدة داخل المدينة.

4) عام ١٨١٨م حاصرت الدولة العثمانية مدينة الدرعية، قلب حكم الدولة السعودية الأولى، وكان حصارا منهكا وقاسيا، وسقطت بسببه المدينة وتوفي كثيرون بسبب الجوع.

الأنظمة الشمولية وفرض سياسات قمعية

5) عام ١٩٣٢م وفي إطار سياسات ستالين في "التجميع الزراعي" تم تقليص الحصص الزراعية بشكل مفرط، بهدف كسر مقاومة الفلاحين الأوكرانيين لتلك السياسات (أوكرانيا كانت تابعة للاتحاد السوفييتي وقتها)، وأدت المجاعة لموت أكثر من خمسة ملايين شخص، وروي أن الناس كانوا يأكلون موتاهم.

عرفت المجاعة باسم "الهولودومور" وتعني باللغة الأوكرانية "وباء الجوع".

6) مجاعة البنغال (بنغلاديش حاليا) عام ١٩٤٣م، وكان ذلك بسبب سياسات الاستعمار والاحتلال البريطاني للهند الكبرى وقتها، فالسياسات الاستعمارية البريطانية إبان الحرب العالمية الثانية ساهمت في حدوث مجاعة تسببت بموت أكثر من ٣ ملايين شخص، وكل هذا بسبب الإنفاق العسكري والاستيلاء على الأراضي الذي أدى لتضخم أسعار المواد الغذائية.

وهذا أدى إلى الجوع والملاريا وسوء التغذية، ونزوح السكان، ونقص الرعاية الصحية وغيرها كثير.

ومن المهم الإشارة أن بريطانيا سبق لها من خلال ذراعها الاستعماري "شركة الهند الشرقية البريطانية" أن سببت عام ١٧٧٠م في مجاعة كبيرة في البنغال نتيجة تقليصها زراعة الرز، واتخاذ زراعة الأفيون المربحة بديلا عنه، وسببت بوفاة عشرة ملايين شخص وقتها.

أطراف خارجية لفرض أنظمة موالية

7) قد تكون اليمن منذ عام ٢٠١٥م أبرز الضحايا لهذا النوع من الحصار والمجاعة، فقد عانى اليمن حصارا بريا وبحريا وجويا، منع دخول الغذاء والدواء، ونتج عن ذلك أسوأ أزمة إنسانية معاصرة، عانى منها ١٧ مليون إنسان بسبب انعدام الأمن الغذائي.

قمع حركات معارضة وعقوبات سياسية

8) في التاريخ الإسلامي تعد ثورة أبي عبدالله عام ٦١ للهجرة أبرز مثال على هذا القمع البشع، وهنا لم يمارس التجويع، إنما "التعطيش" إن صح التعبير، وبأبشع أساليبه، ولا أظن أن هناك سابقة في التاريخ الإنساني مورست فيه سياسة منع الماء بهذا الأسلوب الممنهج والمتعمد مع سبق الإصرار، فالجيش الأموي خطط لهذا الأمر قبل بدء المعركة حينما حشد الجيوش على نهر الفرات، وسد كل مشارع النهر بفرق ضخمة كي لا يستطيع الحسين وأنصاره من الوصول إلى الماء، واعتبر عدد من الكتاب والمفكرين أن هذا من أوضح وأبشع أمثلة التجويع العقابي في التاريخ الإسلامي، ووصفه بعض الكتاب المسلمين بأنها جريمة غير مبررة، ولا شك إطلاقا أن روح الانتقام والتشفي أيضا واضحة في المعركة عبر عنها بعض قادة جيش عمر بن سعد في حواراتهم وخطبهم يوم الطف، وظهرت واضحة في الوحشية التي تم بها قتل الإمام الحسين، وسبي نسائه وأطفاله.

 

9) كما إن الحصار المعروف بشعب أبي طالب يعد بالمفهوم الدولي الحالي "تجويعا" ممنهجا محرما دوليا، ويعد من جرائم التجويع التي يجرمها القانون الدولي الإنساني اليوم، ووسيلة للضغط السياسي والديني، وحرمانا متعمدا للمدنيين.

ففي السنة السابعة للبعثة فرضت قريش حصارا ومقاطعة شاملة استمرت ثلاث سنوات على بني هاشم وبني عبد المطلب في واد ضيق خارج مكة يعرف بـ "شعب أبي طالب".

وقريش لم تكتف بالمقاطعة فقط، بل منعت بيع الطعام والشراب لهم، ومنعت التزاوج معهم، وكذلك التواصل بكل أنواعه، وزادت أنها كانت تعاقب كل من يخالف قوانين المقاطعة التي وضعتها.

وحسب ما يروي التاريخ أن النبي الأكرم عليه الصلاة والسلام ومعه بني هاشم وعلى رأسهم أبو طالب عانوا مجاعة حقيقية لدرجة أن الناس فيها أكلوا أوراق الشجر والجلود اليابسة، وكان بكاء الأطفال يسمع من شدة الجوع.

10) فرض يزيد بن معاوية من خلال قائده الحصين بن نمير عام ٦٤ للهجرة حصارا على مكة المكرمة، لقمع حركة عبدالله بن الزبير، وأدى ذلك إلى نقص الموارد في الحرم، وبالتالي إلى مجاعة.

11) في القرن العاشر الهجري، وفي عصر المماليك فرض السلطان العثماني حصارا شديدا على المدينة المنورة ضد بعض القبائل التي تم وصفها بالمتمردة، واشتدت المجاعة حتى أكلت الحيوانات، ثم العظام، ووردت أخبار عن أكل لحوم بشر، ووصفت الواقعة بأنها "فتنة الجوع"، وقالوا: "نودي في الناس ألا طعام ولا شراب في المدينة".

إبادة جماعية

12) واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في التاريخ الحديث، والتي تسببت بها بريطانيا بشكل مباشر.

عرفت بـالمجاعة الإيرانية الكبرى، وذلك أيام القاجاريين، وبعد الحرب العالمية الأولى، بين عامي ١٩١٧-١٩١٩م، حين تصارعت ثلاث دول هي: بريطانيا، وروسيا، والدولة العثمانية، على أراضي إيران، وأدى هذا الصراع إلى شلل كامل في البلاد زراعيا وتجاريا.

وكان لبريطانيا الدور الأبشع في هذه المجاعة، حينما سيطرت على طرق النقل في الجنوب، ثم استولت على مخزون الحبوب والغلات لصالح جنودها وجيشها، وأيضا نقلت كل القمح والشعير إلى الهند ودول أخرى، متسببة في مجاعة شديدة أدت إلى وفاة أكثر من مليوني نسمة (خمس سكان إيران وقتها).

وساهم الجفاف، والجراد، والأوبئة في تفاقم الأزمة أكثر، مع صمت دولي، وتجاهل تاريخي لها إلى يومنا.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة