قصة حُلم معطّل 15

الكاتب حمد الناصري

   هدوء عميق بدا على الجميع.. ودندنة ألحان أغنية عبد الحليم لا تزال باقية في صوت موسيقي جذّاب.. يخلب الألباب ويصدح الاسماع.. نكّست رأسها إلى صدرها بحزن شديد، ثم رفعته.. مسحت دمعة سقطت من مُقلتيها.. ثم صدحت.. اشتقت إليك فعلّمني أن لا أشتاق/ علّمني كيف أقصّ جذور هواك من الأعماق/ علّمني كيف تموت الدمعة في الأحداق/ علّمني كيف يموت الحُب وتنتحر الأشواق.
بدأوا ـ جميعاً ـ يتفاعلون مع الغناء والعزف.. وأخذوا أدوار كمبّارس ... التفتت إليهم إيرين المُبدعة .. ولم تحدّث أحداً.. وأخذت تتفاعل أكثر وأكثر.. 

    سكتت.. وتركت الموسيقى كعزف يرفع صوت الأغنية.. ثم علت بصوتها.. يامن صوّرت لي الدنيا كقصيدة شعر/ وزرعت جراحك في صدري وأخذت الصبر/ إن كنت أعزّ عليك فخذ بيدي / فأنا مفتون من رأسي حتى قدمي / لو أني أعرف أن الحب خطيرٌ جدًا ما أحببت/ لو أني أعرف أن البحر عميقٌ جدًا ما أبحرت/ لو أني أعرف خاتمتي ما كنت بدأت/الموج الأزرق في عينيك يناديني نحو الأعمق/ وأنا ما عندي تجربة في الحب ولا عندي زورق/ إني أتنفس تحت الماء إني أغرق/ إني أغرق إني أغرق أغرق أغرق..

   وهنا غمغم الجميع، وساحت دموع عينيهم بتفاعل، وكان سعيد الحوز قد تأثّر بالأغنية وأخذ يُجفّف عينيه، فالموسيقى شاعرية وكلمات الأغنية مقطوعة تسحر الألباب، والعزف أغرق المُقل وذُرفت الدموع، كأنّما خرجت من فرات الأحاسيس ووقعت في نِيل المشاعر الآسرة.

     بات الليل كـ فعل يستحق أو كرجع حزين تاهت في عُتمتهِ قصة أزلية لا نبوح بها إذا انطفأت، والحُب يُلملم المشاعر المُشتّتة، وبثلاثتهنّ خولة وسحر وكاترينا، ترتعش الصُدور، كما لو أنها ارتعاشة موسيقى، تفاءلَ سعيد الحوز، بما يُلملمه من أفكار، يتدثّر بما ليس ضارّ منها.. والاسطورة إيرين نجمة الجلسة وقمر الليلة الظلماء حين يغيب البدر عن مساءها الصّاخب.. وهمهم سعيد سراً: ورَجعي حزين بين صَدى الإحساس الذي لا يخفت صداه، وبين هدوء مُفعم بالأنس والودّ، وليلة سعيدة جداً، أراها تُزلزل أصول الكلام، ظاهرة كما ضوء ظلام بين رونقة شفاهٍ سامقة، تعلو وتهبط وبَوحها لا يعرف الكذب.. قالت كاترينا كأنها تنتشله من أفكار قد تزيده بؤساً : أتركك مع خالتي.. حرنَ سعيد الحوز بعينين لا تخطئ حدسها ثم أردف: وماذا بَعد؟ لم يُعقب أحد ولم يرد أحد.

   خلت الغرفة بعد حوار هامس بين كاترينا وسعيد. وانسحب ميلاد إبراهيم وزوجه سحر وأخته خولة من المكان، سارت كاترينا ناحية الباب، مستأذنة الخروج، فهمس سعيد الحوز.. ماذا تُريدينني أن أفعل.. راقصاً أو ملحناً أو أنشد أغنية.. ردّت بسرعة.. كما تشاء.. ثم أقفلت الباب وراءها. 

       بدت الكاهنة إيرين في هدوء، قالت مُعلقة عن ابتداء الموهبة.. الفن في داخل كل إنسان، ولكل منا حاجته فيها ومَيله، فكلما كان التكوين بدايته الأولى أو مرحلة بذرة التكوّن نشأت على شيء أو في جانب معين، فسوف تطغى نشأة البداية على الموهبة الكامنة في داخله، أي أنه يستطيع تحويلها لصالح موهبة أخرى.. فالموهبة تنمو في سُكون مُعترك حياتنا، وكل طريق يسير هادئاً بالمعرفة، يكون قرينه التفاؤل.. والتفاؤل هو ذلك الأمل الذي نسعى إليه، في أعماقنا.. ولو لم نُصرّح به أو نتجرأ بالقول به.. ثم قطعت حديثها وغنّت بشجن وكانت كلماتها ومشاعرها مع بعضها.. الليل ليلٌ والليلُ هوى.. الليل، ليل والليل هوى، أنتَ حياتي.. وجودك سيأخذني إلى.. سكتت.. ثم أردفت.. سيأخذني إلى عالم يأسرني، وأخالهُ عالم أنشدُ فيه هُدوء.. أناجيه ويُناجيني، أنتَ لي نجوى.. إني أناديك لتقوى وتزيد في القلب تقوى.. أعْبد الليل بهوى واجعل الليل هدوء، ولك فيه سَعي وهناء.

قالت إيرين الحكيمة: اسمع يا سعيد، قد لا نقدر على انتشال أنفسنا من الضياع والتّيْه، إذا كنّا نجهل سبب بؤسنا وشقائنا.. الناس أكثرهم دأبوا على تقليب المواجع وعلى اليأس وعلى المَلل، فالسيد سارتر.. أتعرفه يا سعيد.. لاقت أفكاره ظُلماً، حين أوجد نظرية الوجودية، هكذا هو رآها، وكان علينا تطويرها والإبداع في افكارها، إنها فلسفة تحررية ، راجت في عالمٍ لا يزال مُتمسّكاً يومئذ ببعض قِيَم.. هذا الرجل عظيم.. السيد سارتر الذي أحدّثك عنه.. فيلسوف فرنسي وروائي وكاتب مسرحي وكنت أتمنى أن يكون كالموسيقى، حنين في المشاعر وشفيف بإحساس عاطفة الوحْي الموسيقي، فالموسيقي لديه حنين عميق في المشاعر، إحساسه يتجاوب مع شعور الإشتياق على عكس البعض الذين يبدون ذو رقّة ولطف، وما تلك إلا مقدمة لآمال نوعز إليها بهدوء.. والمؤلف الموسيقي كالشاعر تماماً، يغرق في الأحاسيس ويفرط في المشاعر، والذائقة الطربيّة عند غير العرب، تبدو كـ عزف لا يختلف كثيرا عن ثقافة الألحان الموسيقية عند العرب، بل نجد بعضهم يذهبون إلى تفضيل القِيَم والجمال التعبيري، لكنا نحن ـ في العالي ـ كما تُسموننا، نُعرّف العزف بأنه فنّ وموهبة وإبداع بل هو عبقرية كاملة، فالموسيقى، تتضمّن الشعر والرقص والفلسفة والمشاعر والإحساس الرفيع.. وضَعت إيرين الحكيمة يدها مشبوكة في يد سعيد الحوز، وهما يتماشيان في الغرفة في مَمر ضيّق أو دهليز خاص في الطابق الرابع، يُؤدي إلى غرفة نومها.. سرير واسع، رائع وجميل، وعليه ملاءة حريرية وروائح زكية.. أردفت الكاهنة إيرين أم سحر.. إن كنت عبقري.. قل من هو أكبر أنا أم ميلاد إبراهيم أم سحر أو خولة أو صديقتك كاترينا.؛ قال سعيد الحوز بضحكة، يبدو أنا هو الأكبر وأنت أصغر من ذي قبل.. وسَحر تكبر وتكبر.. تضاحكا معا.. سارا إلى ردهة صغيرة، كانت مليئة بالصور وآلات موسيقية وبيانو وعود ومعازف أخرى.. قالت إيرين السلام.. هذه غرفة الاسترخاء والإبداعات، غرفة الأفكار والإبداع والأجواء مشحونة بعالم رفيع المستوى وذوق مُبهر.. عالمها عصيّ على الذين لا يُريدون ثروة الابداع، والأفكار في حضرتها تتواتر بتلقائية في أجوائها المُريحة، وأمّا الذين يَبغون الجمال، يُجاهدون بأنفسهم للوصول إلى مُتعة الحياة، وما الأجساد إلا سبيل لعطائها، وإنْ لم نفعل شيئاً من أجلها، تموت أشياءها، ومن مات لا يعود.؛

    فزّ سعيد الحوز بتلقائية، بماذا يُمكنني أنْ أفاخر به.. وكما قالت الكاهنة.. من مات لا يعود.؛ قال أبي يوماً.. ذلك قدر المرء إنْ لم يُحسن الإصلاح.؛ قفزتْ كلمات أبيه سيف الحوز.. إذ كان أبوه من المُحاربين القدامى.. من مُحاربي الجبل، ذلك الجبل الأشم العظيم، وقصة حرب الجبل، حكاها سعيد بفخر، لأن والده أحد أهم الرجال، مُحاربي الجبل العظيم.. حرب الجبل صراع تاريخي، في زمن تحوّلات الجبل، حين كانت مُنحدرات وقِمم الجبل تُعد موطئاً لتأسيس ثورة تاريخية وصراع على أقوى سلسلة وأهم مكان استراتيجي، أو هو كنز ثمين على مرّ السنين، فالجبل العظيم صَمد برجاله الشرفاء، ليبقى جبلاً متدفقاً بمائه العذب وبحيراته النادرة وموقعه الأعلى ومكانته التاريخية العظيمة.. حكى سعيد الحوز بفخر قصة والده.. كان أبي محارب في الجبل العظيم ، جُرح في حرب الجبل ، مُدافعاً عن أهله في وادي جرفة ، كان يُعرف أبي بأنه مُحارب شُجاع لم يَقهره أحد ، مُقاتلاً شرساً لم يُولّي وجهه في حرب وخسرها أبداً ، أطلق رصاصة على مروحية الاعداء، فسقطت هي ومن فيها في وادي الضباع ، لم يتأثر أبي ، لم يتحرك شي في داخله ، إذ كان رجل صلد، لا يمزح ، ولا يُعامل مع اعدائه برخاوة وضعف ، أيامه كانت معروفة بالقوة والجدّية والنشاط ومُقارعة أعداء الجبل وأعداء وادي نزوة ، تحالف أبي مع قيادة وادي نزوة ، فانتصر على الباغيين.؛ لكن خيانة وقعت في صفوف قوة أبي ، فخشي أن يُغتال أو يُغدر به .. فخرج من مُنحدرات الجبل التي لا يعرفها غيره.. ومنذ ذلك اليوم، بدأتْ الحكاية، حكاية أبي، الذي لم يُعرف عنه شيئاً، والناس في حيرة وفي حالة من الدهشة والإستغراب، وشعروا بالذهول، فالأمر خطير جداً، فـ غياب يوسف بن سعيد الحوز، والذي يُعرف في حرب الجبل بالاسم الحركي بـ سُلطان الجبل، وتساءلوا في دهشة، هلْ حلّ به أمراً أو أتَى عليه ظرفاً أو خِيانةً أو غدراً قاسياً أو وقع أسيراً، أو فقَد بوصلة التصويب أو ابتعد عن رمز المكان " مغارة الجبل" التي تقع أسفل منحدر وادي الضّباع الخطير، ويحلو للبعض، أن يُسميه وادي الموت.. فصخور الجبل بجاذبيتها تميل إلى الانهيارات الصخرية وإلى انزلاقات خطيرة تصل إلى وادي الضّباع وسُمّي بـ وادي الموت لكثرة انحداراته الخطيرة وانزلاقاته الصخرية.؛ وحيوان السّباع والضّباع، لن تُبقي أحداً حيّاً، على قيد الحياة.؛

    نكّست إيرين أم سحر رأسها حزناً على والد سعيد الحوز، ثم قالت.. تعال نصلي عليه.. ارتاحت نفسية سَعيد، وفي نفسه.. إن هذه المرأة عاقلة ورائعة تصلي على أبيه وهي لا تعرفه.. ولكن كيف تصلي.. أنكر عليها موقفها.. لا تصلي المرأة على موت رجل، كصلاة الرجال على الأموات.. لا تصلي المرأة صلاة الغائب أو صلاة الجنازة ولا تتبعها، ويحتفظ بها الرجل ويُكلف بها دون النساء.؛ فما بال إيرين أم سحر تستأثر بعلم لا تعلمه، وتقول ما لا تملكه من عِلم ومعرفة، فأحوال مثل تلك لا يعلمها إلا الراسخون في العِلم والمعرفة في العقيدة.. فهل إيرين من اللواتي يعلمن ما لا يعلمه غيرها من الرجال والنسوة.؟ ما بالها؟ ما حلّ بها؟ بَلهاء أم غلبت عليها شِقوتها أم أعْمتها الغفلة أم بها شيء من هوس وجنون، لا يُمكن التلاعب في العقيدة، ولا إسقاطات على حُكم مُنزّل.؛ ما أعرفه من خلال كاترينا، بأنّ خالتها إيرين تُحبّ الحياة للناس جميعاً، عاقلة أريبة وكاهنة، تتميّز بالصلاح.. ولُقّبت بإيرين السلام، والحِكْمة.. فهل من الحِكْمة أنْ يختلط غثّ القول بفساد السلام التي تنشده أم لها رأي مُختلف.؛

      سارا إلى ردهة تؤدي إلى غرفة، أكثر أناقة من غرفة الموسيقى الخاصة، غرفة ذات أناقة وبساطة وأثاث مدهش وألوان بلمسات فنية وزخرفة وإضاءة وتفاصيل لا يُعلم سرها ونجواها إلا من له لمسات فريدة من الجمال والأناقة والزخرفة والذوق الرفيع.. التفتت إيرين الحكيمة، وأردفت.. أنيقة أليس كذلك.؟ كان جسدها قد التصق بسعيد الحوز.. انظُر سعيد، كيف يبدو منظر الغرفة.. أشارت بسبابتها إلى سرير فاخر يفوق حد الاناقة والجمال المميز.. واستطردت هذا لي.. غرفتي وحدي.. أحبّ الوحدة منذ صِغري.. تمنيت لو يُشاركني من يسحرني وأنجذب إليه.. الحياة سِحر وجمال، لذلك اسْميت إبنتي سَحر، وزوّجتها بـ ميلاد.. لتكون كنيته عندما يبدو كبيرا.. ميلاد سَحر.. ولا أظن سحر يفوتها اسم جميل كهذا سَحر إبراهيم.. يبدوا الاسم متناسقاً وجذاباً.؛
يتبع 16

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة