أنور الخنجري
alkhanjarianwar@gmail.com
استكمالًا لمقالنا السابق عن مستشفى نوكس التذكاري في مطرح، نسلّط الضوء هنا على صرحٍ آخر من مشاريع البنية الطبية الحديثة في عُمان، ألا وهو مستشفى النساء في مسقط. كان هذا المستشفى في الأصل عيادة أسستها إليزابيث كانتين، زوجة المبشر جيم كانتين الذي أُرسل إلى مسقط ليتولى إدارة مدرسة أولاد (الرقيق المحررين) خلفًا لبيتر، شقيق المبشر المعروف سامويل زويمر. كانت إليزابيث ممرضة في الأصل، ورأت أن إنشاء عيادة طبية غربية سيكون ذا فائدة عظيمة للنساء في مسقط، وانطلاقًا من هذه الرؤية، أنشئت في عام 1905 عيادة صغيرة خارج أسوار المدينة وتطوًعت للعمل فيها. وبذلك، تكون إليزابيث كانتين أول من أدخل الطب الغربي إلى مسقط، ممهدة الطريق لافتتاح مستشفى النساء، وذلك قبل تدشين مستشفى مطرح عام 1909 على يد الدكتور شارون جون طوماس.
في عام 1913، انضمت الطبيبة سارة هوسمون إلى العمل في المستشفى، تلتها في عام 1917 الممرضة الهندية ماري بالاسوندرام، المعروفة محليًا بـ"مس ميري"، إلى جانب الناشطة الاجتماعية الأسترالية فاني لوتون. شكّلت هؤلاء النساء الثلاث جوهر العمل الطبي بين النساء في عُمان آنذاك، وكرّسن حياتهن لخدمة المجتمع لمآرب تبشيرية معروفة. كانت فاني تتمتع بشخصية ديناميكية وشبكة علاقات واسعة بين النساء في مسقط، وكانت سارة طبيبة كفؤة رغم إصابتها بإعاقة في ساقها (طرف صناعي)، مما جعلها عزيزة على النساء اللواتي خدمتهن، لكن بدورها كانت تتمتع بروح لا تقهر وتعرب عن حبها واهتمامها الكبيرين لهن، بينما كانت مس ميري تُعرف بتفانيها وإخلاصها لعملها، وكانت الوحيدة التي تزور المنازل لتوليد النساء عند الضرورة.
وفي ظل تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية عام 1929، توقفت الكنيسة الإصلاحية الأمريكية عن تمويل البعثات الطبية، مما أدى إلى استقالة سارة هوسمون وعودة مس ميري إلى الهند، ثم تبعهم الطبيب بول هاريسون، المسؤول عن مستشفى مطرح. وهكذا أُغلقت مستشفيات البعثة مؤقتًا حتى عام 1939، حين وصل الطبيب وليم (ويلز) طوماس إلى مسقط. عمل الطبيب ويلز طوماس على افتتاح المستشفيين، حيث بدأ أولًا على إعادة تشغيل المستشفى الرئيسي في مطرح، وأثناء قضاء إجازته السنوية في جنوب الهند في خريف 1940، التقى مجددًا بالممرضة ماري بالاسوندرام، التي أعربت عن رغبتها في العودة إلى عُمان، فعادت بالفعل لتصبح من جديد شخصية محورية في مستشفى النساء بمسقط، حتى أن الناس أطلقوا على المستشفى اسمها، وسمّت الكثير من الأمهات بناتهن باسم "مريم" تيمنًا بها. ويشير الطبيب ويلز طوماس في مذكراته أن الممرضة ماري محبوبة للغاية، ويبدو أن النساء يلتمسن المساعدة منها أولاً إذا كانت قريبة وقادرة على رعاية الأم، وتعتبرها النساء في مسقط ومطرح قابلةً حنونة تُجيد عملها جيدًا، رغم أنها تمارس مهنة التوليد كما تعلمتها خلال فترة الحرب العالمية الأولى، إلا أنها لا تزال تُمثل خيارًا مفضلًا جدًا مقارنةً بالقابلات المحليات.
لم يكن مستشفى النساء في بداياته أكثر من مجرد عيادة صغيرة، بعدد محدود من العاملين، وحين كانت الحاجة تستدعي تدخلًا جراحيًا، كان راعي الكنيسة في مسقط يتولى ترتيب نقل المريضة إلى مستشفى نوكس التذكاري في مطرح. وتشير بيث طوماس -زوجة الطبيب ويلز طوماس- في مذكراتها أنه في عام 1950 تبرع السيد محمود البوسعيدي، أحد أفراد الأسرة الحاكمة، بقطعة أرض مجاورة للمستشفى، عرفانًا لنجاح عملية جراحية لابنته الوحيدة. وعلى مدار العامين التاليين، قام القس جاي كابينجا -راعي الكنيسة في مسقط- بتوسيع المستشفى، حتى أصبح يضم بحلول عام 1952 سبع غرف بأربعة أسرّة لكل منها، أضيفت إليها لاحقًا أربع غرف أخرى وسكن للممرضات. في ذلك العام، 1952، وصلت الممرضة جانيت بورسما (المعروفة محليًا بـ"خاتون نعيمة")، وكانت الممرضة الأجنبية المؤهلة الوحيدة في البلاد لعقدٍ من الزمان، حيث لعبت دورًا محوريًا في تقديم خدمات الولادة والرعاية الصحية في كل من مسقط ومطرح. وفي منتصف الستينيات، انضمت الطبيبة الهولندية أليس فاندر زواغ إلى المستشفى، مما رفع عدد العاملات الطبيات إلى نحو 12 امرأة. ومع تزايد أعداد المراجِعات، كان مستشفى مطرح أيضًا يستقبل نساء حوامل من مناطق الباطنة، تجري فيه العمليات المتعلقة بالولادات المعقدة، بينما بقي مستشفى النساء في مسقط مركزًا رئيسًا لرعاية النساء في مراحل ما قبل وبعد الولادة.
وتشير سجلات البعثة إلى أن عدد المواليد السنوي في الأربعينيات لم يتجاوز 40 مولودًا، لكنه ارتفع إلى 75 في عام 1951 و478 في عام 1958، ثم 815 في عام 1961، حتى تجاوز 1200 في عام 1965، وبنهاية الستينيات، كانت الولادات تتجاوز 2400 سنويًا. كان مستشفى النساء في ذلك الوقت في أوج ازدهاره، وأصبح من أكثر المؤسسات الطبية شعبية في البلاد، بفضل تفاني الطاقم الطبي، وعلى رأسهم الممرضة جانيت بورسما "خاتون نعيمة".
هكذا بدأت الحكاية، من عيادة صغيرة خارج أسوار المدينة إلى مؤسسة تحمل السعادة لأجيال عدة من أبناء عُمان، وبقت كذلك حتى عام 1972 حين نُقلت ملكية المستشفى إلى الحكومة وأُعيدت تسميته بـ"مستشفى السعادة"، ثم أُعيد بناؤه لاحقًا كمركز صحي جديد يُعرف اليوم بـ"مركز مسقط الصحي"، لتُطوى بذلك صفحة أخرى من صفحات تاريخ الطب الحديث في عُمان، لكن ذاكرة هذا المكان، ومن مرّ به من أمهات وقابلات ومريضات وأطباء وممرضات، تبقى محفورة في الذاكرة كواحدة من القصص التي تستحق أن تُروى للأجيال، لا باعتبارها تاريخًا مضى وصفحة طُويت، بل لأنها كانت بداية طريقٍ ما زال يمتد لإرساء نظام صحي أكثر تنظيمًا وحداثة. واليوم، ورغم أن المبنى القديم لم يعد قائمًا، فإن إرثه لا يزال حاضرًا في ذاكرة الناس وفي كل مركز صحي حديث يُعنى بالمرأة والطفل.